أيّ جنون أن تكون تونسيا؟.. حاولت عبثا أن أطرد شبح هذا السؤال عن لُبس الواقع وفضول الروائي. تساءلت: هل يجلس العظماء ؟ .. في مدينة تنفض عن أهداب شمسها غبْش ذاكرة مثقوبة اندلق من تفاصيلها تاريخ، كلُّ أثاث التدوين فيه معد للسخرية من مؤرخ لم يسبق أن سجّل انتصارا فأصبح حبره عبئا عليه وسخرية من أبطال يحاولون رفع صخرة في تراجيديا سالت من قلوبهم نحو واقع لم يعودوا فيه أكثر من بقايا رماد محترق .. في مدينة تضغط على جرحها كإمرأة رقوب أو كجندي يمسح آثار حرب علقت تفاصيلها على بندقية صدئة وانحرفت بوصلة تاريخها قليلا نحو المجهول فلم يعُدْ ما يدل عليها غير الملح من أثر الدموع على شاهد دوّن هزيمة جديدة يأبى الذهول المبعثر في سمائها نسيانُه ... أليس النسيان محاولة لتأجيل خراب قادم لا محالة ؟ في مدينة تُسمع رائحة احتراقها على مرمى الغياب الموحش المتخبّط في أسطورة كنّا الكناية فيها فأصبحنا مجازا عابرا كأمل الواله.. في هذه المدينة التي أفاقت على ضجيج الدّم المباح في زمن سرقناه خلسة من الله، يُشم أنين الغضب تعركُه أنفة عاشق في رمادة جرح لن يندمل. تستطيع أن تأذن لدهشتك بالصراخ وبأنك محاصر أمام أربعة أحرف أفقية التكوين: شين تشيّد لماض كان لنا ولحاضر ينز من هتافاتنا و لمستقبل لا يطمئن للتفاؤل/ كاف تكابر كوردة مهملة في قرية منسيّة أو في ساحة معركة احتدم فيها الموت/ راء ربضت أمام علم وقف شامخا متماسكا أمام رصاص كان ممكنا أن يخيّب ظن جلاديه وأن يؤخر لعاب الحكام أمام اللحم التونسي المقدم على موائد الخيانة و العمالة/ ياء تئن وتعوي في صباح مجبول بالغموض والخيبة أو تكز مخالبها رغم لفح الرصاص المتعطش للدم في صباح شتوي بارد .. أتراني سأكتب في ضجيج يثيره فيّ انفلاته من وردة تجرح حاجز الصمت ؟ هي تونس التي لم تنطبق شفتاها يوما لتهمس: اغتيال سياسيّ، ولم تنبس أصابعها المثقلة بالزمن لتنعى جنينا دائم الحنين إلى رحمها.. لكنها اليوم تشهد المهزلة دون قدرة على فكّ طلاسم الحدث. لم تصّدق بادئ الأمر حين حملوا إلى حضنها وليدها النائم رغما عن كبريائه هي التي اعتقدت أنهّا أنجبته في مهد معافى من وعد البندقية فإكتفت بطرد الهاجس المؤرق لتنهض إلى يومها عاديّة ماكرة.. ولم تصّدق نومه المتواصل رغم مرورها بواجبها الصبّاحي و من ورائها لم نقو نحن على تصديق هذا الحلم التراجيدي. كسرت صمتنا ببسمة هي كل ما تبقى ولكزتنا بزغاريدها المبعثرة بدموعها. تمسكنا نحن بفستانها المجعّد من أثر الندوب والخيانات، و سرنا وراءها نحو عبث لم نحزم له مسبقا أمتعة المغامرة. أما تزال الكتابة ممكنة في زمن أصبح فيه الرصاص مرادف الحرية أو شعرها المرتجل ؟ كم مرة سأرجوه الانصراف عني لأتأمل النشيد مليّا ؟؟ نشيد من لا مهد لهم ولا لحد ، نشيد من لا اسم لهم ولا مدن ولا منفى ؟ ابتعد أيها المبثوث فينا لأجمع شظايا المشروع الذي كنت،، و لأتبيّن حجم الصراخ السائل على حيطان مدن شاخت بإنطفائك .. فمن دمنا إلى دمنا حدودنا و لحودنا . هاهو النشيد يلقي بي إلى جحيم آخر: ماذا سأقول لكرمل ؟ للكرمل الشامخ الشاهد على من مرّ و من قد يمّر.. ماذا أخبرها عن بلد يغتال عقوله ثم يستعجل التنديد مضرجا بالخيبة ؟ ومن المنام منام آخر: هل مات؟ ليس تماما قل له أن يحفظ ورد الشهداء من خرافة تشيّع جمهورها إلى مقصلة السؤال:هل نسيتم أنّ للذاكرة رائحة تنهش الطين لتعلي كوخا من الماء ؟ ويحملنا السؤال إلى صدمة أعلى: هل انتُزع السلام من دفتر القلب؟ أم أن نيزكا طائشا أخطأ تصويب جنونه ؟ كانت الجماهير الهاتفة والخائفة تمشي خلفك هذه المرة ، تسترق نظرة إلى الخلف لتخمد السؤال: في جنازة من تمشون؟ وكنت أنت سيّد المقام... تقف وما في الموت شكّ لواقف ... أما أنا فأحدج شوارع أدركتُ أنّني لا أعرفُها.. يُمشطني المطر وأتمتم أغنية أخاف عليها كما عليك من غياهب النسيان: ضميني.. بليلي ريقي ... غطي بلحافك رفيقي ... مهما عثرني طريقي ... المسيرة تستمر... العنوان من محمود درويش ساعة اغتيال الشاعر معين بسيسو *