يفنى المرء جسدا ولا يفنى ذكره، هو حال العظماء الذين يخلدهم التاريخ وكان الزعيم الراحل الحبيب عاشور أحد عظماء تونس... قد يستكثر البعض على الراحل الهالة التي حظي بها في الذكرى الرابعة عشرة لرحيله... لكن اذا عدنا الى تاريخ تونس الحديث سواء في طور الحركة التحريرية أو طور بناء الدولة وتجسيم مقومات الاستقلال ندرك مدى اسهامات الراحل في كل الاطوار وارتباط اسمه بمسار تونس السياسي والاجتماعي على امتداد اكثر من نصف قرن عرف خلالها عديد المحن من المنفى والابعاد والسجن والافتراءات وما الى ذلك من المتاعب التي كان الراحل يواجهها برباطة جأش وقوة عزيمة. كان الراحل الحبيب عاشور مسكونا بهاجس الاستقلالية النقابية رغم انتمائه الى الحزب الحاكم الذي غادره اثر استقالته من الديوان السياسي في محنة 26 جانفي 1978 لما تأكد من انحراف النظام عن التزاماته الاجتماعية بانحيازه الى الرأسمالية المتوحشة التي بدأت تستفحل في السبعينات. في تلك الفترة هبّ الاتحاد العام التونسي للشغل في وجه غلاة النظام بعد تنكر الحكومة لالتزاماتها ضمن الميثاق الاجتماعي الذي تم ابرامه عام 1974 ضمن سياسة ما كان يسمى بسياسة الاقلاع الاقتصادي والرقي الاجتماعي للوزير الاول الراحل الهادي نويرة، لكن لما أدرك الاتحاد في أواسط السبعينات وتحديدا بداية من 1977 ان أوضاع الشغالين والكادحين لم تعد تحتمل المزيد من التدهور وانه لا سبيل الى ان يتواصل الاثراء السهل الفاحش على حساب الاجراء وطالب بحق التعويض عن تدهور القدرة الشرائية واحترام حقوق العمال الشرعية وخاصة الحق النقابي والحق في الاضراب ثارت ثائرة السلطة وراحت تكيل التهم جزافا الى الاتحاد وقيادته مستهدفة بالخصوص الزعيم الراحل الحبيب عاشور الذي واجه «بارونات» النظام الى حدّ الاستقالة من الحزب ولم يكن ذلك بالقرار السهل لأن ذلك كان يعتبر من باب التحدي للزعيم الحبيب بورقيبة نفسه فكان من ذلك ان صعّد صقور الحزب الحاكم من تحاملهم على الراحل الحبيب عاشور وعموم النقابيين قيادين وقواعد واحالتهم على محكمة أمن الدولة بتهم ملفقة كان يمكن ان تؤدي بهم الى حبل المشنقة. لم تكن محنة 26 جانفي 1978 الوحيدة في تاريخ الاتحاد فقد سبقتها مظلمة 1965 التي تسلطت على الراحل الحبيب عاشور ثم المظالم التي تعرض لها النقابيون في الثمانينات وخاصة في 1985 دون ان تغفل عن محاولات تدجين المنظمة الشغيلة طيلة العهد النوفمبري لكن الاتحاد عرف كيف يصمد ويحافظ على استقلاليته بفضل مناضليه الاحرار الذين نهلوا من المدرسة النقابية الاصيلة (مدرسة حشاد والتليلي وعاشور) وتشبعهم بالروح الوطنية العميقة بقدر تشبثهم باستقلالية العمل النقابي وليس من باب الصدف ان كان الاتحاد العام التونسي للشغل في الصفوف الامامية في ثورة الحرية والكرامة وليس من باب الصدف ايضا ان نرى الاتحاد اليوم، كما كان طيلة تاريخه قلعة حصينة من قلاع النضال الوطني والاجتماعي لأنه باختصار ضمير الشعب وحامل همومه وتطلعاته.