لا حديث في تونس خاصة في مستوى الخطاب الرسمي إلا عن الاستثمار وتشجيع المستثمر. حيث تعتقد الحكومة التونسية المؤقتة أن الاستثمار هو الحل لدفع عجلة التنمية. غير أن هذا الرأي ليس صحيحا دائما فعلى طرف نقيض مع هذا التصور الليبرالي الذي يرى الحل في دفع الاستثمار على اعتبار أن العرض يخلق الطلب، نجد تصورا آخر يرى أن العكس هو الصحيح. حيث يرى «كاينز» احد ابرز المفكرين الاقتصاديين في التاريخ أن ارتفاع الطلب يخلق العرض الخاص به ويدفع عجلة الإنتاج لذلك فان رفع الأجور وتحسين الدخل قد يكون الحل الأمثل لدفع الاقتصاد. وبعيدا عن هذا النقاش النظري، رغم أن الواقع اثبت في عدة مناسبات أن النظرة الليبرالية للاقتصاد لا تتمتع بالنجاعة اللازمة مقارنة بفكرة تدخل الدولة في اقتصاد السوق، فان الاستهلاك يبقى في كل الأحوال عاملا اقتصاديا مهما. ونظر لأهمية الاستهلاك في دفع عجلة الاقتصاد رأينا أن نخصص هذا المقال لقراءة واقع الاستهلاك التونسي وخصائصه وفق المعطيات الرسمية التي قدمها المعهد الوطني للإحصاء حول الإنفاق سنة 2010. الأكثر فقرا اقل استهلاكا وتشير المعطيات الإحصائية إلى أن الأكثر فقرا اقل استهلاكا في جميع المجالات ففي الوقت الذي يبلغ فيه المعدل الوطني للإنفاق الفردي على التغذية 763.4 دينار، فان الفئات الاجتماعية ذات الدخل الأقل من 500 دينار شهريا (وهي الشريحة الغالبة ) تنفق 166.9 دينار على التغذية للفرد الواحد أي اقل من ربع معدل الإنفاق الوطني. وعلى سبيل الذكر فان معدل إنفاق الأسر الأقل دخلا على اللحوم والدواجن بلغ 32 دينارا للفرد في الوقت الذي يبلغ فيه المعدل الوطني 178 دينارا في حين ينفق الفرد في الأسر الأكثر دخلا 367 دينارا على اللحوم والدواجن فقط، أي أكثر من ضعف مجموع إنفاق الفرد الأكثر فقرا على كامل مكونات التغذية. وعموما فان المعدل العام للاستهلاك في كل المجالات بالنسبة للأسر الأكثر فقرا يبلغ 396.8 دينارا في حين أن المعدل الوطني للإنفاق لكافة مجالات الاستهلاك يبلغ 2600.8 دينارا. وهو ما يعكس أن الفقراء في تونس محرومون من ابسط الضروريات من وان هناك تفاوتا حقيقيا في مستوى عيش الأسر ومعدل إنفاقها وهو ما يفترض تدخلا عاجلا للدولة لتعديل هذا التفاوت. اغلب الدخل للتغذية والسكن. وتشير المعطيات إلى أن التغذية والسكن تمثل محاور الإنفاق الأبرز مهما كان الدخل. حيث ثمل هذه المجالات 48.7 بالمائة من إنفاق الأسر الأكثر دخلا و73 بالمائة من دخل الأسر الأكثر فقرا. ويعد هذا التفاوت إلى أن الأسر الأكثر فقرا تعيش فقط لتلبى الحاجيات الأساسية التي لا يكاد دخلها يغطي نفقاتها، في حين أن الأسر الأكثر غنى قد تجاوزت تلك المرحلة. وأصبحت تنفق دخلها في أبواب أخرى كالترفيه والتعليم الراقي. فعلى سبيل المثال تنفق العائلات الأكثر دخلا على التعليم 123 دينارا أي ما يعادل إنفاق الفرد في الأسر الأكثر فقرا على السكن في حين تنفق هذه الأسر على التعليم 13.6 دينارا أي 11 بالمائة من إنفاق الأسر الغنية. ويبلغ معدل الإنفاق الوطني على التغذية والسكن 53.7 بالمائة من مجموع الإنفاق. مجانية وبالنظر إلى المعطيات الإحصائية نجد أن التعليم والصحة ثمل اقل أبواب الإنفاق حيث ينفق الأكثر فقرا 8.7 بالمائة فقط من مجموع الإنفاق على الصحة والتعليم وذلك لان هذه الخدمات مازالت مجانية رغم تخلفها (خاصة في مجال الصحة). كما تنفق الأسر الأكثر غنى على هذه الخدمات نسبة قريبة من نسبة إنفاق الفقراء أي 10.3 بالمائة من مجموع الإنفاق العام وهو ما يعني أن هذه الأسر تتمتع أيضا بمجانية هذه الخدمات وبخدمة التغطية الاجتماعية. وعموما فان دراسة الاستهلاك التونسي لن تكون علمية وموضوعية بالشكل المطلوب إلا إذا ما تمت دراسة تامة غير أن هذه الملاحظات الأولية حول الإنفاق التونسي تبرز حقيقتين مهمتين تتمثل الأولى في وجود تفاوت حقيقي بين الفئات من حيث حجم الاستهلاك ونمطه ومجالات توظيفه. وتتمثل الثانية في أن هيكلة الإنفاق تثبت بشكل صحيح مقولة التونسي حينما يقول نجري على «الخبزة» إذ أن جزء مهما من دخل التونسي يذهب لتغطية نفقات التغذية (34 بالمائة) لذلك فانه من الطبيعي أن تخلق المنسبات الاستهلاكية وخاصة شهر رمضان أزمة في موازنات المالية للعائلة التونسية.