في الوقت الذي يغرق فيه المواطن التونسي في وحل الأزمة الاقتصادية الخانقة. وفي الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات أهل الاقتصاد، وهم أدرى به، تحذر من تداعيات الوضع الأمني والسياسي على النشاط الاقتصادي. وفي الوقت الذي تخفض فيه مؤسسات العالمية للترقيم المالي والسيادي تصنيف الاقتصاد التونسي، يصدر المعهد الوطني للإحصاء أرقاما عن الوضع الاقتصادي تفيد أن العيشة «فل الفل». ولان الأرقام تكلمت وقالت أن الوضع بخير وان الأسعار انخفضت وان البطالة نقصت وان الصادرات تطورت، فلا كلام بعد كلام الأرقام. صحيح أن المواطن التونسي حائر في سبل توفير المال اللازم للعودة المدرسية والجامعية، صحيح أن المواطن التونسي أصبح يسير في خط متوازي مع لحم العلوش والغلة والحوت، ولكن الأرقام وما أدراك ما أرقام المعهد الوطني للإحصاء تقول أن الواقع بخير. على خلاف العادة لم تبقى أرقام المعهد هذه المرة حبيسة الدفاتر والحواسيب، بل خرجت إلى العلن بقوة وخصصت لها أكثر من فقرة في «شريط الأنباء» الواحد. «من خلال تجربتي المتواضعة مع نشر أخبار الثامنة مساء»، وكل الأخبار حول الأرقام، فهمت الكثير من الأشياء. فهمت أن الأهم في دراسة الاقتصاد أن تكون الأرقام «مضروبة بالسفود» وان تحمل مقاصد الطمأنة النبيلة حتى وان كان هذه الطمأنة لا تجد صداها في قفة المواطن، وحتى وان كانت الجهة المعنية أساسا بالطمأنة وهم رجال الأعمال وأصحاب المال قد أعلنوا أنهم في قلق وانشغال وان الوضع يكاد يكون كارثي. في هذا الخضم من الأرقام والأرقام الموازية والتشاؤم والتفاؤل يلح السؤال حول المستهدف من نشر تلك الأرقام. وإذا كان المواطن لا يجد صدى لهذه الأرقام وإذا كان رجال الأعمال على طرفي نقيض مع الأرقام المقدمة فمن المستهدف؟ أي علاقة لهذه الأرقام بأبوين يخططان للعودة المدرسية والجامعية و يعيدان الحسابات عشرات المرات فلا تستقيم؟ أي علاقة لهذه الأرقام بشاب وفتاة يريدان الزواج ويؤجلانه إلى اجل غير معلوم، إلى أن يفرج ربي؟ أي علاقة لهذه الأرقام بموظف تمزق حذاءه واضطر إلى انتظار أول الشهر القادم؟ أي علاقة لهذه الأرقام بمن يقف أمام الجزار ويتطلب في حياء أن يزن له نصف رطل وهو يمني النفس أن لا يكون الشحم والعظام اغلب ما في القرطاس؟ أي علاقة لهذه الأرقام بعاطل عن العمل رغم شهادته العلمية وسنين الدراسة الضائعة؟ أي علاقة لهذه الأرقام بعائلات تونسية مازالت لا تنعم بالماء الصالح للشراب؟ أي علاقة لهذه الأرقام بفلاحين الذين اضر موسم الجفاف بمحصولهم، وزادت وزارة الفلاحة الطين بلة بقطع الماء تحت عنوان ترشيد الاستهلاك؟ أي علاقة للشعب التونسي والاقتصاد التونسي بتلك الأرقام؟ ولان المعنيين بتلك الأرقام لا تربطهم بها رابطة، فان البديهة تقول أن الأرقام صنعت أصلا لطمأنة لأصحابها. وقد لا يكون تجاوزا أن يقال بكل لطف لأصحاب الأرقام خذوا أرقامكم وامنحونا، يرحم والديكم، أرقاما تعكس حقيقة ما نعايشه ونحياه.