كشفت الانتخابات الرئاسية الفرنسية، للمرة الثانية منذ بداية قرننا الواحد والعشرين، عمّا لم يكن متوقعا... فبعد أن اضطر اليسار إلى حمل شيراك على الأعناق، مرغما،في انتخابات 2002، إلى الإيليزاي قطعا للطريق أمام زعيم أقصى اليمين العنصري جان ماري لوبان، بسبب خلو سباق الرئاسة من أي مرشح يساري بعد الجولة الأولى، وجد صانعو القرار والملاحظون داخل فرنسا وخارجها أنفسهم أمام تنائج جولة أولى من انتخابات رئاسية غير مألوفة وتحمل مؤشرات تنبئ بتحولات في الخارطة السياسية الفرنسية. ومن المنطلق سجل الفاعلون السياسيون والملاحظون، بارتياح، الإقبال الكبير على صناديق الاقتراع، حيث تجاوزت نسبة المقترعين الثمانين بالمائة من عدد المرسمين في القائمات الانتخابية. وتحصل الفائزان فيها بالمرتبتين الأوليين والمؤهلان لخوض الجولة الثانية من هذه الانتخابات الرئاسية، نحو 56 بالمئة من مجمل الأصوات المصرّح بها، بحصول مرشح اليمين نيكولا ساركوزي على 31,18 بالمئة ومرشحة الحزب الاشتراكي سيغولان روايال على 25,87 بالمئة . أما إذا أضفنا إليهما المرشح الثالث في الترتيب فرانسوا بايرو الذي حصل على 18,87بالمئة فإن النّسبة ترتفع إلى نحو 75بالمئة من إجمالي الأصوات المصرّح بها، ولتسهل المقارنة يكفي التذكير بأن الرئيس شيراك لم يحصل في الجولة الأولى من انتخابات سنة 2002 التي ارتفعت فيها نسبة الممتنعين عن التصويت، سوى على نسبة 19,88بالمئة. وإذا أضفنا إلى كل ذلك تقهقر زعيم أقصى اليمين جان ماري لوبان إلى الموقع الرابع بحصوله على نسبة 10,44بالمئة من الأصوات بعد أن كان ثانيا في ترتيب نتائج الإنتخابات السابقة، وكذلك تدني النسب التي تحصل عليها بقية المرشحين الاثني عشر، وأغلبهم من اليسار، حيث لم يحصلوا مجتمعين إلا على نحو 13بالمئة ، يبدو جليّا أن الخارطة السياسية الفرنسية تشهد تحولا أعمق مما كان منتظرا وأن الأمر يتجاوز بكثير التفسير الجاهز والمتعارف عليه أي «التصويت المجدي» الذي كان يشكل ظاهرة ألفتها الانتخابات الفرنسية، وهي ظاهرة لم تختف هذه المرة أيضا، ولعل من ابرز أسباب تواصلها ما لا تزال تحتفظ به كل مكونات اليسار الفرنسي من شعور بالمرارة والإحباط بسبب فشل ليونار جوسبان المفاجئ في تخطي عتبة الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لسنة 2002. وإذا كان استمرار بعض المظاهر المألوفة في الحياة السياسية الفرنسية مثل الاستقطاب الثنائي يمين يسار يشغل البعض عن التنبه للتطورات الجديدة، ولعل أبرزها بداية بروز قوة ثالثة وسطية سوف تضيف، دون شك، تعقيدات جديدة على اللعبة السياسية وتفرض تعاملا جديدا مع واقع لم يكن مألوفا. ويبدو، في ظل مستجدات هذه الانتخابات، أن المفاجأة التي تمخضت عن الجولة الأولى الانتخابات السابقة سوف تعيد نفسها هذه المرة أيضا ولكن ليس في معسكر الإشتراكيين بل في المعسكر المقابل. ذلك أن اليمين يبدو واثقا، مسبقا، من احراز نجاح انتخابي ساحق وقد تعزز لديه هذا الشعور بالنتيجة التي حصل عليها في الجولة الأولى، إضافة إلى الاطمئنان إلى أن مجموع الأصوات التي تحصل عليها بقية مرشحي اليسار، والتي من المنتظر،نظريا، أن تؤول إلى مرشحة اليسار في الجولة الثانية، ليست كبيرة. بينما يبدو مؤكدا أن أنصار لوبان سوف يدلون بأصواتهم لصالح ساركوزي، أما الأصوت التي حصل عليها بايرو فإن الاعتقاد السائد في أوساط اليمين هو أنها حق من حقوقه باعتبار بايرو مدين لليمين بوجود كتلته البرلمانية بشكلها الحالي وسوف يكون من نكران الجميل ألا يدعو بايرو ناخبيه إلىمنح أصواتهم في الجولة الثانية من الإنتخابات لساركوزي. ولكن ما تشير إليه استطلاعات الرأي وتطورات الأوضاع قد يفضي إلى خيبة أمل كبيرة في أوساط اليمين قد تكون أشد وطأة من تلك التي واجهها اليسار في الإنتخابات الماضية. فاستطلاعات الرأي ما انفكت تشير إلى تقلص الفارق في الأصوات المنتظر أن يحصل عليها كلا المرشحين حيث انخفضت النسبة المنتظر أن يحصل عليها ساركوزي من 54 بالمئة إلى 52بالمئة إلى 51بالمئة مقابل ارتفاع في نسبة الأصوات التي من المحتمل أن تحصل عليها روايال من 46بالمئة إلى 48بالمئة إلى 49 بالمئة كما تفيد استطلاعات الرأى إلى أن نسبة لاتتجاوز بكثير حود 80بالمئة من أنصار لوبان سوف تصوت لساركوزي أما نسبة أنصار بايرو الذين سيدلون بأصواتهم لروايال فسوف يكون عددهم أكبر ممن سيصوتون يمينا. ومهما يكن من أمر فإن المحدد في نتائج هذه الإنتخابات أمام تعادل الكفة تقريب في المجتمع الفرنسي بين اليمين واليسار عامة،سوف يكون الخصال الشخصية لكل من المرشحين وقدرة كل منهما على الإقناع خاصة في المواجهة التلفزية المنتظر أن تضعهما وجها لوجه، وقد سبق لمثل هذه المواجهة أن غيرت موازين القوى في السابق وفتحت أبواب الإيليزاي أمام فرانسوا ميتران فلم لا تفتحها هذه المرة أمام أول امرأة لتكون رئيسة للجمهورية وتقودها على درب الجمهورية السادسة؟ من يدري؟