هذا البلبل الصدّاح ، ذاك السيل الجارف والساعد الذي لا يكلّ والقلب المفعم بحب الفقراء الذي دفن في قبر الحب حيا ، ولد ذات صيف من سنة 1956 بدوز من أب فقير كان يبيع قوت عمله إلى الإقطاعيين ملاكي النخيل مقابل حفنة من التمر. عاش الفتى بلقاسم في فقر وخصاصة عيشة سائر أبناء دوز الفقراء المعدمين. كان إبن الطبيعة ينام على هدهدة أرياحها ويستفيق على غناء أطيارها وكان كثير الإلتصاق بوالده يصاحبه إلى عمله ناظرا بحزن إلى تلك السواعد المفتولة التي تجدّ لكسب لقمة عيشها بألم وتعب وعذاب. وإظافة إلى ولوع الفتى بجمال الطبيعة الساحر التي إتخذ منها أنشودة حياته ومهرجان أفراحه كان له شاغل آخر فالمطالعة والتجوال في الصفحات المشرقة بعبير القول لشدّ ما يفوق التجوال في أحظان الطبيعة. فقد كان بلقاسم بفطرته مجبولا على التطلّع وذلك لنبوغه ولسجيّته التي كان سلطانها الخيال المجنّح والشعور الهيمان لا العقل العصيّ المتكلّس ، فراحت الأفكار النيّرة تراوده والأحلام الحلوة تهدهده وبدأ وعاؤه ينضج إلى أن إستقرّ به المقام في أواخر السبعينات بمدينة قابس ليلبس البدلة الزرقاء بدلة العمال هذه الطبقة التي إنتمى لها وذاب فيها. ومنذ إستقراره بهذه المدينة الصناعية نرى نشاط الشباب يزداد فيه يوما بعد يوم فينخرط بلقاسم بوعي كامل في الحياة السياسية والثقافية والنقابية بل يصبح أحد العناصر الفاعلة في الساحة. كان بلقاسم عاملا كادحا ونقابيا طلائعيا ومثقفا عضويا إختار النضال ضد الغزو الثقافي الإمبريالي الرجعي الذي يعمل على تبليد الفكر وتكريس التخلّف وتعطيل ملكة النقد والإبداع لدى الجماهير الشعبية بل ناضل من أجل المساهمة في قيام ثقافة تقدّمية بديلة إذ فهم بلقاسم بأنّ الثقافة الوطنية كجملة معارف وقيم وتراث ذات طابع طبقي بالضرورة تعتبر سلاحا من أسلحة نقد السائد وهدمه وبناء البديل الثقافي وهي تلعب دورا أساسيا في تفجير الوعي لدى الجماهير الشعبيّة وتمكينهم من زاد نظري يمكّنهم من التصدّي الواعي للفكر الإقطاعي والثقافة الإمبريالية. المسألة الوطنية كانت حاضرة أيظا عند بلقاسم ، فلسطين كانت حبّه الكبير وحلمه الأكبر. كان ردّه عنيفا حين يسمع الحديث عن الحل البورجوازي للقضية أو عن الشرعية الدولية. بل كان واضحا حين يؤكّد على ضرورة إعادة تشكيل وعي وممارسة حركة التحرّر الوطني العربية على أساس كون الكفاح المسلّح هو الطريق الوحيد لحل التناقض الوطني الطبقي القائم بين طبقات شعبنا المظطهدة من جهة والإمبريالية والرجعية العربية من جهة أخرى بعيدا عن منطق «الشرعية الدولية» والمواثيق الدولية الزائفة وكل ما يتبعها من مقولات متفسّخة لم تكن في يوم من الأيام إلا تقنينا حقوقيا يعبّر ويكرّس رؤى وبرامج ومصالح الإمبريالية ودوائر النهب الإحتكاري العالمي في إطار تجميل ومشرعة أسس لصوصيتها وهيمنتها على الشعوب ومقدّراتها وعليه كان لا بد من تحديد ضوابط الشرعية الحقيقية حتّى لا تتداخل الرؤى وتطمس التناقضات الجوهرية تحت مظلّة العدوّ الإيديولوجية والسياسية فلا شرعية ولا مواثيق إلا ما كان إفرازا واعيا وحرّا لإرادة الشعوب مكرّسا مصالحها ومعبّرا عن طموحاتها من منطلقات التساوي في بناء حضارة الإنسانية التقدّمية والإنسان الحر من كل إستيلاب وإستغلال وهيمنة. هكذا إذا يلقّننا ذاك الفتى الأسمر درسا في الوفاء لروّاد و مناضلي الفكر الإشتراكي ويعلّمنا رغم صغره بل لصغره عشق الكفر بالفقر والإظطهاد والإستغلال والحقد على الصامتين والأعداء والوفاء للشّهداء الذين خطّوا بدمائهم صفحة مضيئة من تاريخ شعبنا في 26 جانفي 78 وفي 4 جانفي 84 دفاعا عن الأرض والحرّية والكرامة الوطنيّة. غير أنّ هذه القرنفلة الحمراء التي أوجدت لنفسها مكانا زمن الشوك قطفت ذات يوم من سنة 2001 وظلّت تذبل وتذبل إلى أن إنطفأت ثمالتها في مساء يوم قاتم مدلهم يوم 24 أفريل 2001) اليوم العالمي للتنديد بالإمبرياليّة)، غير أن بريق ذاك النبراس قد حلّق في أجواء الخلود حيث «لم يمت من قضى كي تعود البلاد إلى شكلها ويعيد شبابيكها مخبأ للعصافير والأغنيات». هكذا إنطفأت شمعة بلقاسم بعيدا عن رفاقه وأصدقائه وبعيدا عن قريته التي عشقها فأعادت إحتضانه من جديد وهي التي طالما كانت مصدر إلهام. وأختم بهذا القصيد الذي رثى فيه بلقاسم صديقه الشّاعر مختار اللغماني وها نحن نرثيه به رثاء المختار اللغماني: ذكرى أليمة على خاطرك نحيوها ذكرى أليمة وما عاد منّا ذاكر كيف نذكرك والكأس في إيدي ساكر مختار يا مختار كبرت السلّة وما عرفت ما نختار وسط القبيلة يحكموا تجّار ظفار يا ظفار ريحك جاني وهذي برقية من سورنا بعثوها ظفار دوري ...دوري أسيوط دوري ...دوري دمشق دوري...دوري بغداد دوري...دوري طرابلس دوري...دوري قرطاج دوري...دوري وكوني عنيفة نخلتك كسروها يا قدس ثوري ثوري جيش الغزاة لترابك جابوها البترول يا لغماني رفع العمامة وفي الحضيض خلاني البترول ها الدخان ريحة جاني