في المربع أو في المثلث أو في الدائرة تدور العقارب وتدور ولا تأكل سوى جزئيات العمر. مختزلة ونافذة هذه الجملة التي كتبها شاعر مسكون بالفناء وبما تزيله مكنسة الوقت من عمرنا، تدور عقارب الساعة في كل الاطر الهندسية وبمعية كل الوسائط التكنولوجية ولكنها لا تأكل شيئا سوى مقاطع وتفاصيل وجزئيات من عمرنا، ولكن أكل العقارب يختلف من فرد الى فرد ومن عرق الى عرق ويختلف بين جنسية واخرى، وبين الجنسين ايضا يختلف، فعقارب ساعة المواطن الياباني لا تدور بنفس نسق ساعة المواطن السينغالي وساعة الانجليزي بعقاربها الثلجية مختلفة حتما عن ساعة الخليجي ذات المكيّف، ولكن كيف تدور ساعة المرأة التونسية العاملة، تلك العاملة في مصنع يشرف على ربوة الوقت والجهد؟ عاملة تبدأ يومها في الساعة الخامسة والنصف بدقات متوالية لمنبه، ساعة حائطية عتيقة. بصعوبة تستيقظ ولا تريد مغادرة فراشها ولكنها ستغادره حتما بعد لحظات مكرهة، تسرع هنا وهناك تجهّز صغيريها المغمضة أعينهم من النعاس وتجهز فطور الجميع وحقائب الاطفال ولا تغادر المنزل الا في حدود السابعة الا ربعا، تودع الصغيرين في الحضانة وتقصد محطة حافلات ستستقل احداها نحو المنطقة الصناعية لتباشر العمل في المصنع المرتفع في الساعة السابعة والنصف... وتبدأ عقارب الساعات الكبيرة في قضم جزئيات يومها... تمر الساعات الاولى بنسقها الطبيعي المعتاد ثم تبدأ في التراخي بعد الظهر، اذ تبدو ساعة خروج هذه العاملة من المصنع بعيدة جدا بل شديدة البعد... تتمهل، تتثاءب، تتمطى، وتوشك العقارب على التوقف ولكنها تصل في النهاية الى الساعة الخامسة، وتخرج العاملات منهكات... تسرع كل منهن الى شأنها وتسرع عاملتنا الى المحضنة، تعود بالاطفال وتبدأ رحلة اخرى مع عقارب ساعة تدور هذه المرة بنسق شديد السرعة: بين آنية على الموقد يطبخ داخلها عشاء فقير وبين ملابس تنتظر من يدعكها في حوض الغسيل وبين غبار تراكم على شبه أثاث وأرضية تنتظر لفتة رعاية وإكرام... تدور عقارب ساعة العاملة المنزلية، تأكل وأطفالها ما تيسره الشهية ثم تغسل أواني الأكل وتنظف الموقد وتنام في حدود العاشرة... متى كل أيام هذه العاملة متشابهة: عمل في المصنع ثم عمل في البيت، لا يغير نظام حياتها هذا الا الأمل في الحصول على أجرها تنتعش به اثناء الاسبوع الاخير من كل شهر، متى ترتاح هذه العاملة؟ يوم الاحد بالتأكيد، ولكنها لا ترتاح، فالبيت في حاجة الى التنظيف الشامل وأطفالها يريدون كسكُسًا ككل التوانسة يوم الاحد... فلا ترتاح الا في الخامسة ظهرا فتتذكر انها لم تكوِ الثياب... ثم تفكر ان صنع بعض الحلويات المنزلية قد يخفف عنها مصاريف لمجة الابناء، فتباشر العمل بجهد جهيد من أجل طبق «بشكوتو او سابلي» قد توفر من خلاله بعض المليمات... ثم تصل عقارب الساعة الى العاشرة فتنام، وتتذكر في الصباح انها كانت تنتظر عطلة نهاية الاسبوع لتهتم بنفسها قليلا وتزور حلاّقة الحي ولم تجد الوقت لذلك، وتتذكر انها قد برمجت طويلا لزيارة أمها وعيادة زوجة أخيها النافس في عطلة نهاية الاسبوع ولم تقدر... وتتذكر انها وعدت إحدى زميلاتها بالخروج للتجول مع الاطفال في منتزه المدينة ولم تقدر... وتتحسر ايضا عند ما تتذكر انها كانت تتخيل ان تقضي مساء رائقا مع زوجها خلال عطلة نهاية الاسبوع دون ان تنام على أريكة الصالون من شدة التعب ولم تقدر... تتذكر شواغل كثيرة لم تنجزها... وتنتبه الى انها لم تقبل زوجها العزيز منذ مدة طويلة فيتمثل لها في صورة بعيدة يلوّح مودعا ومنهكا... تنتفض العاملة وتعد نفسها بالتدارك خلال العطلة السنوية... التي ستقضيها مشغولة بإعداد العولة والاشراف على عملية دهن منزلها الصغير وتدارك ما فاتها من واجبات عائلية وزيارات مجاملة وتهان وتعاز... فتستفيق انها لم ترتح ولم تشعر بالاسترخاء منذ سنوات ولم تخرج للتجول والنزهة منذ سنوات ولم تجد قط ذاك الوقت الذي تحلم به لتقضيه مع زوجها وحبيبها... و و و... السؤال لماذا تشتغل هذه العاملة كل هذا الوقت الطويل فتسرق عقارب الساعة عمرها دون ان تنتبه...لماذا لا تتمكن من الحصول على مصنع يبدأ دوامه في الثامنة والنصف بدل السابعة والنصف فتستطيع ان تنام جيدا؟ لماذا لا تتمكن من مغادرة العمل عند الثالثة والنصف مثلا، فيمكنها ساعتها ان تجد بعض الوقت للاهتمام بنفسها وبالبيت وإعطاء الحب الذي يستحقه اطفالها لهم... لماذا لا يوفر هذا المصنع وسائل نقل لعاملاته ودور حضانة لأطفالهن... لماذا هذا العمل وفق نظام الانتاجية (بالقطعة) الذي يقسم ظهرها ولا يتيح لها اي جزئية للراحة... فتظهر دائما عاجزة عن اللحاق بالمعدل المطلوب..؟ لماذا... لماذا... لماذا تأكل عقارب الساعة جزئيات عمرها؟