الاول مناضل صلب ومكافح عنيد من طينة الثابتين على العهد وُلد في جويلية بمدينة كونو الجنوب افريقية. أوقف لأول مرة في ظل نظام الميز العنصري في الخامس من شهر أوت وحكم عليه بخمس سنوات سجنا من اجل مغادرة البلاد بصفة غير قانونية والحث على الاضراب. وبعد عامين صدر ضده حكم بالسجن المؤبد من اجل «الخيانة». وعندما أطلق سراحه يوم الحادي عشر من شهر أفريل سنة كان قد قضّى اكثر من سبعة وعشرين سنة سجنا محطّما بذلك رقما قياسيا في مدة الاعتقال. ولم يكد يمر عام واحد على استعادته لحريته حتى انتخب رئيسا لحزب المؤتمر الافريقي مواصلا نضاله ضد النظام السياسي الذي بنى نفسه على منطق الميز بين البيض والسود الى ان انتخبه البرلمان رئيسا للجمهورية في افريل بعد الاطاحة الشعبية بنظام الاقلية العنصرية في جنوب افريقيا. وفي العامين الاولين لاعتلائه السلطة انطلقت أولى جلسات لجنة الحقيقة والمصالحة التي أقرّها القانون المؤرخ في جويلية وعهد اليها بمهمة التحقيق في كل الجرائم على حقوق الانسان التي ارتكبها مسؤولو النظام العنصري البائد، وطلب منها العفو عن هؤلاء المسؤولين في حق ما ارتكبوه من اعتداءات وخروق. وقد جندت مدته الرئاسية حماسة مواطني جنوب افريقيا، وفتحت عهدا للمصالحة ارتقت فيه معاني الاداء المواطني في ظل سلطة عرفت باختياراتها الجريئة والصائبة كيف تضفي على شرعيتها شرعيات اضافية وتفرض احترامها جراء فاعليتها وجديتها. وتحول نظام جنوب افريقيا من نظام عنصري مقيت الى منارة في العالم كله استقطبت الانظار البعيدة والقريبة لأن رمزها، الرئيس نيلسون مانديلا، مناضل صادق وشريف في وطنيته دفع لقاء اصراره النضالي اكثر من عقدين عزيزين من حياته في سبيل قيم وطنية وانسانية سامية، فساهم في انتصار هذه القيم على أرض الواقع مما كان من نتائجه ان خرجت جنوب افريقيا من عصور مظلمة ومتخلفة الى رحاب الفضاءات الحضارية المتجذرة في العصر. وبانتهاء مدته الرئاسية الاولى والوحيدة آل الرئيس نيلسون مانديلا على نفسه ان لا يتقدم لمدة رئاسية ثانية فاسحا بذلك المجال لأبناء موطنه لممارسة السلطة في روح متفتحة على منطق التداول الرافض لمنطق التشبث البدائي بكرسي الحكم. وقد أعطى الرئيس نيلسوف مانديلا بذلك درسا بليغا لكل هؤلاء الحكام الافارقة، الاحياء منهم والاموات، الذين لا تستقيم حياتهم بدون عرش السلطة يتشبثون به في حد ذاته حفاظا على مصالح البطانات الى ان يطالهم العجز بمعانيه فيفرضون على مسيرة أوطانهم عجزهم المولّد لعجز غير تاريخي مجحف. أما الثاني فليس سوى حارس السجن الذي كلفته ادارته بحراسة «البوكوس» بَُُّّذب أي المساجين السياسيين، وكلهم من «الكافير» بَّْىننفثب أي من السود، وذلك في جناح الاجراءات الامنية العالية من سجن جزيرة روبن سيء السمعة في جنوب افريقيا ايام نظام الميز. وجيمس غريغوري رجل أبيض البشرة، ويكره السود ولا سيما هؤلاء الحركيين كُرها متعصبا، ويحملهم كل هذه الاضطرابات التي تعبر عن نفسها بمختلف الاشكال في العاصمة جوهانسبورغ أساسا وفي غيرها من مدن جنوب افريقيا. وبفعل المعاشرة اليومية التي جمعت الرجلين مدة عقدين من الزمن تحول العداء الى صداقة والجفاء الى مودة واحترام لم تلبث الايام ورقة مشاعر السجين وعمق شخصيته ان رسختها لدى الحارس الذي سقط أسير سجينه فانقلبت المعادلة وزالت الفوارق وتوطدت علاقتهما بعد الاسر. وتخليدا لهذه العلاقة كتب جيمس عريغوري كتابا عبارة عن سيرة ذاتية سمّاهُ «نظرة الظبي» كما قام، مؤخرا، بيل أوست بإنجاز شريط سينمائي بعنوان «وداعا بافانا» قدّم فيه شخصية نيلسون مانديلا من خلال رؤية حارس زنزانته وصديقه جيمس غريغوري. وعند سراحه كتب السجين مانديلا لحارسه بطاقة هذا نصها: «تنتهي اليوم الساعات السعيدة التي قضيناها معا خلال العقدين الاخيرين. وأؤكد لك أنك ستظل عالقا على الدوام في أفكاري». ان نيلسون مانديلا هو بلا منازع مناضل انساني ذو شخصية فذّة وذو ثبات نفّاذ يفرض الاحترام والتقدير الذي لم يفرض في افريقيا، وفي هذه الزاوية لا نجد الا زعماء قلائل لعل ابرزهم السينغالي ليوبولد سيدار سنغور والسوداني سوار الذهب ومؤخرا الموريتاني ولد فال، لأنهم احترموا عهدهم وسموا بأنفسهم عن سجن الحكم وهوس السلطة وفظاعة الموت على الكرسي وفضيحة سب المستقبل وتكميم الافواه وذبح قيم المواطنة كما فعل ويفعل اولئك الذين قال في أغلبهم الشاعر الالماني الحكيم برتولد براشت: ... «الذين ينهبون اللحم من المائدة يعلمون القناعة! الذين قسمت لهم العطية يتطلبون التضحية المتخمون يتحدثون الى الجائعين عن الازمان الرائعة التي ستأتي الذين يسوقون الرجل العادي الى الهاوية يقولون ان الحكم هو اصعب الاشياء على الرجل العادي...».