مصر.. مفاجأة جديدة في قضية "سيدة بورسعيد"    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كاس تونس: النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي ويتأهل الى ربع النهائي    مديرو بنوك تونسية يعربون عن استعدادهم للمساهمة في تمويل المبادرات التعليمية    اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    الهيئة الإدارية للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس تدعو إلى عقد مجلس وطني للمنظمة خلال سبتمبر القادم    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    تسمّم تلاميذ بالحلوى: الإحتفاظ ببائع فواكه جافّة    افتتاح معرض «تونس الأعماق» للفنان عزالدين البراري...لوحات عن المشاهد والأحياء التونسية والعادات والمناسبات    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    سبيطلة : القبض على مجرمين خطيرين    قابس: نقل 15 من تلاميذ المدرسة الاعدادية ابن رشد بغنوش بعد شعورهم بالاختناق والإغماء    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    مصر: رفع اسم أبوتريكة من قائمات الإرهاب والمنع من السفر    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    عاجل/ القصرين: توقف الدروس بهذا المعهد بعد طعن موظّف بسكّين امام المؤسسة    تحذير: عواصف شمسية قوية قد تضرب الأرض قريبا    كرة اليد: الاصابة تحرم النادي الإفريقي من خدمات ركائز الفريق في مواجهة مكارم المهدية    صفاقس اليوم بيع تذاكر لقاء كأس تونس بين ساقية الداير والبنزرتي    بلاغ مروري بمناسبة مقابلة الترجي والأهلي    بنزرت: جلسة عمل حول الاستعدادات للامتحانات الوطنية بأوتيك    صفاقس: المناظرة التجريبية لفائدة تلاميذ السنوات السادسة    المنستير: إحداث أوّل شركة أهليّة محليّة لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    خبير في التربية : ''تدريس الأولياء لأبنائهم خطأ ''    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    مدير عام الغابات: إستراتيجيتنا متكاملة للتّوقي من الحرائق    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    عاجل/ القسّام: أجهزنا على 15 جنديا تحصّنوا في منزل برفح    ليبيا: إختفاء نائب بالبرلمان.. والسلطات تحقّق    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    والدان يرميان أبنائهما في الشارع!!    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    القدرة الشرائية للمواكن محور لقاء وزير الداخلية برئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جيل صدمته الهزيمة
حرب الأيّام الستة: تأليف: بسمة قدماني تعريب: المنتصر الحملي
نشر في الشعب يوم 30 - 06 - 2007

[مثّل انهيار الجيوش المصريّة والسّوريّة والأردنيّة في بادئ الأمر هزيمة سياسيّة لجيل راهن على التّنمية والوحدة العربيّة والاشتراكيّة. ولأنّ المجتمعات العربيّة أضاعت البوصلة، فقد ولّت وجهها نحو الدّين، وشهدنا بروز حركات إسلاميّة تضاهي في قوّتها الأنظمة القائمة، المفتقرة إلى الكفاءة ، والّتي ليست لها من غاية سوى الاحتفاظ بالسّلطة بأيّ ثمن]
لئن كان عدد ضحايا حرب الأيّام السّتّة قليلا نسبيّا، باعتبار أن مصر الّتي دفعت الثّمن الأكبر خسرت 10 آلاف جنديّا وأنّ عدد الجنود السّوريين والأردنيين الّذين قتلوا لم يتجاوز 5 آلاف، إلاّ أنّ العرب كانوا يفضّلون أن يفقدوا رجالا على أن يفقدوا أراضيهم وكرامتهم. وكلمة االنّكسةب، الّتي تعني العودة إلى الحالة المرضيّة السّابقة، ترتبط بالهزيمة أمام الكيان الصّهيونيّ، كما ترتبط خاصّة بالانقطاع العنيف للمشروع الكبير للدّولة العربيّة التّقدّميّة القوميّة الحداثيّة الّذي كانت تمثّله النّاصريّة والبعثيّة، والّذي بلغ ذروته مع تأسيس الجمهوريّة العربيّة المتّحدة بين مصر وسوريا.(1961-1958 ) فعلى امتداد عشريّتين من الزّمن تقريبا (1967-1950 ) ، ظلّ العرب متمسّكين بأمل تدارك كارثة «النّكبة» النّاجمة عن ضياع فلسطين في .19491948 لقد رسّمت الدّولة الصّهيونيّة نفسها سنة 1967 باعتبارها واقعا دائما في الوقت الّذي كان يكبر فيه داخل «إسرائيل» خطاب يقول بعدم قابليّة الرّجوع إلى ما قبل احتلال الأراضي الجديدة ونتيجة لذلك كان يعاد رسم المسرح السّياسيّ.
لقد أثّرت الكارثة عميقا في سلوكيات المجتمعات العربيّة وحتّى في منظومة قيمها. وبسبب ذلك صارت النّفس تهون على صاحبها. صحيح أنّ أيّة عائلة تفقد ابنها كانت تشعر بالإحباط، ولكنّ المجتمعات كانت تعتبر نفسها في حالة حرب، حرب مشروعة يمثّل الألم جزءا منها. إلى تلك الفترة يعود تاريخ تمجيد الموت، في البداية مع حركة الفدائيين الفلسطينيين الّذين يضحّون بأنفسهم في سبيل الأرض والهويّة الوطنيّة، وبعد ذلك مع الحركات الإسلاميّة الّتي استعادت ذلك التّمجيد وقدّست الموت.
أوّلا، مثّلت حرب الأيّام السّتّة منعرجا سياسيّا في المنطقة، وذلك مع افلسطنةبالصّراع العربيّ- الصّهيونيّ من ناحية أولى، و تأكيد العامل الدّينيّ من ناحية ثانية. فلأوّل مرّة منذ ,1948 صار الفلسطينيون بأنفسهم يحملون مطالبهم على عاتقهم من خلال منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، الّتي نشأت سنة 1964 وستعتبرها الجامعة العربيّة لاحقا الممثّل الشّرعيّ والوحيد للشّعب الفلسطينيّ. انخرطت م.ت.ف. في الكفاح المسلّح مع انطلاقة فتح في نهاية السّتّينات، ولكنّها، بالتّتابع مع انغلاق البلدان الّتي كان بإمكانها الإنطلاق منها لانجاز عملياتها، اتّجهت نحو طرق أخرى للمقاومة. وبعد طردها من الأردن في ,19711970 اعتمدت «الإرهاب» الدّوليّ، لأنّه كان الوسيلة- المفتاح لإستراتيجية بقائها، ولم تتخلّ عنه كلّيّا إلاّ في الثّمانينات. كان بروز هذه المجموعات المسلّحة غير الحكوميّة الّتي تقوم بالهجمات فيما وراء الحدود سابقة. فهي تهاجم إسرائيل وتتصادم أيضا مع سلطات البلدان الّتي تنطلق منها لشنّ عملياتها.
ثانيا، شاهدنا منعرجا في العلاقة بين السّياسة والدّين واستعادة رجال الدّين الإسلاميين الكبار لشرائح واسعة من الرّأي العامّ. فغداة الهزيمة مباشرة وخروج النّاس في مسيرات كبرى داعية جمال عبد النّاصر بعد استقالته إلى العودة إلى الحكم، سعى هذا الأخير إلى الحصول على دعم رجال الدّين، ونجح في ذلك. ففي خطبة الجمعة غداة الهزيمة، قال الشّيخ محمّد متولّي الشّعراوي، أكثر رجال الدّين شعبيّة في مصر:» نحمد اللّه على هزيمة مزلزلة ساعدت على إيقاظ الأمّة وعلى توعيتها بأنّها قد ضلّت الطّريق بإبعادها للدّين عن الشّؤون العامّة». لقد وجد النّظام في استخدام الدّين وسيلة لإعادة بناء شرعيته المفقودة، مع قناعته بقدرته على السّيطرة على رجال الدّين. وهكذا، عيّن عبد النّاصر الشّيخ الشّعراوي مسؤولا على الوعظ والإرشاد في صلب الحزب الوحيد. ورغم ذلك، فقد قدّر بسرعة المخاطر المنجرّة عن ذلك وسيسعى إلى احتواء تأثيره.
عندما خلفه على سدّة الحكم سنة 1971 أنور السّادات، استأنف إستراتيجية التّعيين. وهكذا، استتبّ التّواطؤ بين السّلطتين (أي السّياسيّة والدّينيّة) وتعمّق، وكانت غايته تخدير الشّعب ومنعه من تحدّي النّظام القائم. ومع ذلك، بدأت السّلطات الدّينيّة نفسها تستقلّ بذاتها، وهي الواثقة من سيطرتها على القلوب والعقول. فقد عملت في المجال العموميّ: في الثّقافة والشّؤون الاجتماعيّة ووسائل الإعلام والعلاقات بالآخر- أكان الجار المسيحيّ أو الجار الغربيّ الأبعد والأخطر أيضا. وهذا الصّعود القويّ (الأزهر في مصر والوهابيون في العربيّة السّعوديّة) حوّلها إلى قطب بديل قادر على هيكلة حياة المجتمع، وعلى إضفاء معنى على وجوده الجمعيّ، كما وفّرت لها إمكانياتها الماليّة، بالإضافة إلى ذلك، القدرة على تأمين خدمات اجتماعيّة لشعب يعاني من الفاقة.
علاوة على ذلك، كانت المؤسّسة الدّينيّة، حتّى قبل ازدهار الحركات الأصوليّة الّتي تعلن إسلامها، تضع القضيّة الفلسطينيّة في صلب إشكاليّة الهويّة وتقدّسها. لقد أعادت صياغة الصّراع الوطنيّ والإقليميّ في عداء بين اليهود والمسلمين. إنّ القول إنّ الحركة الإسلاميّة كانت جوابا على إحداث الدّولة العبريّة على أساس دينيّ هي قراءة استرداديّة خاطئة. فقد اعتبرتاإسرائيلب بين 1948 و1967 تحقيقا لمشروع قوميّ يتعارض مع القوميّة العربيّة والفلسطينيّة. ولكنّ فشل السّلطات النّاصريّة والبعثيّة سنة 1967 حرمها من كلّ قدرة على نسج شبكة قراءة للصّراع. وبتأثير من المؤسّسة الدّينيّة، تمّت إعادة كتابة التّاريخ:وهكذا، فإنّ الأجيال الّتي نشأت بعد حرب الأيّام السّتّة- وهي تمثّل اليوم الأغلبيّة الكبرى من السّكّان- درست تاريخا متأثّرا بالخطاب الدّينيّ. هذا الأخير يثير كذلك شعورا بالذّنب لدى كلّ فرد بمجرّد أن يبتعد عن التّديّن أو «يزيغ عن الطّريق القويم».
خلال أربعة عقود، أخذ الانفصال بين المجتمعات العربيّة والأنظمة القائمة يتعمّق. ومستقبلا، تركت مهمّة التّصرّف في العقول للمؤسّسة الدّينيّة، ومهمّة التّصرّف في المكبوتات والطّموحات للحركات الإسلاميّة الّتي ستنقسم إلى توجّهين رئيسيين أحدهما قانونيّ والآخر «ثوريّ».
مصر، هي على الدّوام البيت الّذي منه تتحدّد التّوجّهات الإيديولوجيّة وتنطلق التّيّارات الّتي تكتسح المنطقة بأكملها. فإلى جانب فضيحة هزيمة ,1967 صار العدوّ الإسرائيليّ في الجوار، وصارت قواته العسكريّة رابضة على الضّفّة الشّرقيّة لقناة السّويس وعلى مرتفعات الجولان، على بعد أقلّ من 100 كيلومترا من العاصمة السّوريّة. تخلّى الإخوان المسلمون عن أفكار سيّد قطب، وتراجعوا عن العنف وتبنّوا إستراتيجية الفتح التّدريجيّ للمجتمع عن طريق الانتشار الزّاحف لعقيدتهم. وهم وإن ظلّوا ينادون بالجهاد ضدّ قوّة الاحتلال («الإسرائيلي» أو الوجود العسكريّ الأجنبيّ) إلاّ أنّهم يتميّزون بوضوح عن الأصوليين الّذين ينادون بحرب إبادة على «الكفرة»، سواء في داخل البلاد أو في خارجها، من أجل عزّة اللّه.
مقابل ذلك، ظهرت الجماعات الإسلاميّة الّتي تريد الانخراط في العنف. إذ خرجت عن الإخوان المسلمين لتنشر فعلها في اتّجاهات ثلاثة. أوّلها اندفاعها نحو استقطاب الشّباب وانغراسها في الجامعات وتسرّبها إلى المدارس الثّانويّة الرّاقية واجتذابها لأبناء الأسر البرجوازيّة الكبيرة بدمشق وعمّان والقاهرة والإسكندريّة والخرطوم .إنّ الحركة الإسلاميّة الأصوليّة، وهي حركة فكريّة وسياسيّة بالأساس، لم تكن أبدا وقفا على الطّبقات المحرومة. ذلك أنّ قادتها، سواء بالنّسبة إلى الجماعات الإسلاميّة بداية من 1967 أو بالنّسبة إلى القاعدة فيما بعد، هم مفكّرون من البرجوازيّة المتعلّمة والميسورة.
اتّجاهها الثّاني يتمثّل في قيامهم بحملات لنشر ارتداء الحجاب. أمّا المبرّر، فهو أنّ الإسلاميين، إزاء اغتصاب الأرض الإسلاميّة، يظهرون تعلّقا هجاسيّا بفكرة الشّرف والفضيلة، الّذين سيكون قدر النّسوة وواجبهنّ حمايتهما. فبما أن الحكومات عجزت عن إنقاذهما، فعلى المجتمع وعلى النّساء أن يفعلوا ذلك مباشرة.
وأخيرا، يتمثّل التّوجّه الثّالث في إستراتيجيّة الجماعات في التمارين الجسديّة والرّياضيَة. فانطلاقا من فكرة سلامة صحّة الحياة والجسم، كان المجاهدون على وعي بعد بأنّهم قد انخرطوا، بتدرّبهم فعليّا على العمل المسلّح، في نهج التّصادم مع السّلطة.
في كلّ أزمة كبرى، يتكرَر نفس الرّسم. القمع الدّمويّ للإخوان المسلمين السّوريين في مدينة حمأ سنة ,1982 مطاردة النّظام المصري الشّرسة سنوات 19921988 للجماعات على إثر الاعتداءات على مدنيين وسيّاح، العشريّة السّوداء في التّسعينات بالجزائر، 11سبتمبر ,,.2001كلّ هذه الأزمات أثارت ردّ فعلين متعارضين: قسم أغلبي تراجع عن العنف وتوجّه نحو القانونيّة والاعتدال، بينما تصلّب قسم أقلّيّ والتزم بالعنف الجهاديّ، وكان ذلك في أكثر الأحيان باللّجوء إلى المنفى.
بمرور الزّمن، اتّضح أنّ الخطاب المعتدل والأساليب القانونيّة كانت باهظة الثّمن سياسيّا: ذلك أنّ شعبيّة أنصارها تزايدت. وفضلا عن ذلك، كانت السّلطات السّياسيّة، الّتي لم تكن تعرف سوى استخدام الأساليب الأمنيّة، أي المخابرات الشّهيرة، تعوّل على الإسلاميين المعتدلين في العربيّة السّعوديّة ومصر والأردن والمغرب لمجادلة المتطرّفين في المجال العقائديّ، للحدّ من سطوتهم على الشّباب والقضاء على العنف. كانت التّجربة حاسمة، إذ تقلّص وزن الجماعات المسلّحة سواء في مصر أو في الجزائر. ولكنّ الإسلاميّة كنمط تفكير ونموذج اجتماعيّ فرضت نفسها، واعتنقها المعتدلون والمؤسّسات الدّينيّة، مع تنام للنّزعة المحافظة وانقراض للحرّيات.
أدّت هزيمة 1967 أيضا إلى سقوط الزّمر الحاكمة في سوريا والعراق والسّودان وليبيا، ولكنّها ستكون آخر الانتفاضات من ذلك النّوع، والحال أنّه منذ 1948 كان انعدام الاستقرار السّياسيّ جزءا من المشهد الشّرق- أوسطيّ وكانت الانقلابات تلو الانقلابات. منذ أربعين سنة تقريبا، مازالت نفس القيادات أو أبناؤها متربّعة بكلّ قوّة على عروش الحكم.
سنة ,1973 عاينّا انتفاضة ستظلّ مثالا في المخيّلة العربيّة. ذلك أنّ الحرب الّتي شنّتها القاهرة ودمشق في شهر أكتوبر أفرزت شعورا بأنّه من الممكن غسل إهانة ,1967 وقلب موازين القوى. فعلى الصّعيد الإستراتيجيّ أوّلا، سمح الحشد الجماعيّ للموارد العسكريّة والنّفطيّة بالاعتقاد في وجود تضامن عربيّ ولو في غياب الوحدة يمكن أن يعزّز مطالب الضّعفاء وخاصّة منهم الفلسطينيين. وعلى الصّعيد السّياسيّ ثانيا، تحدّث العرب بصوت واحد وصاغوا مطالب متناغمة. وعلى الصّعيد الاقتصاديّ أخيرا، فإنّ النّعيم الفجائيّ الّذي تدفّق نحو البلدان النّفطيّة بعث الأمل في أن تستفيد منه المجتمعات العربيّة بفضل إعادة الحكومات توزيع الثّروات.
غير أنّ تلك الآمال تبدّت سرابا. فعلى المستوى العسكريّ، لم تؤدّ الحرب إلى أيّ تحسّن وكان اللّقاء متعادلا. وقد تمّ ضبط زمن المفاوضات والاتّفاقيات حتّى قبل أن تبدأ المعارك. وبعد أن عبر الجيش المصريّ بنجاح قناة السّويس، توقّف بقرار سياسيّ: فالسّادات كان يريد فقط أن يحرّك خطوط وقف النّار لسنة 1967 من أجل أن يدخل في مفاوضات من موقع أفضل. تملّك إسرائيل الخوف، ولكن سرعان ما وقعت طمأنتها قبل أن تجبر على الالتزام بالانسحاب من الأراضي المحتلّة.
وسرعان ما أثبت رئيسا الرّتل، مصر والسّعوديّة، أنّ التّضامن العربيّ الجديد كان مرتبطا بدعم الولايات المتّحدة ومعونتها. وأخيرا، فإنّ الثّروة الفجائيّة الّتي انتفعت بها الدّول النّفطيّة وثمارها غير المباشرة والهامّة بالنّسبة إلى الدّول العربيّة الأخرى- ونخصّ بالذّكر منها العائدات الّتي كانت تحوّلها يد عاملة مهاجرة بكثافة إلى الخليج- صاحبها صعود غير مسبوق للفساد والنّزعة الرّبحيّة الطّفيليّة ونكد عيش المجتمعات. لقد أثرى النّفط السّلطات القائمة ودعّمها بمداهنة من البلدان الاستهلاكية. وفي الوقت الّذي تطوّرت فيه الوظائف الأمنيّة والرّقابة على السّكّان، توارت صورتها كدول بوليسيّة لصالح الأسواق الفاتنة الّتي كانت تعرضها. وقد توطّد سلطانها على المجتمع بدعوتها النّخب التّقليديّة أن تعالوا، واغتنوا! وبإنشاء برجوازيّة دولة جديدة. هذه الوضعيّة الآمنة سمحت للسّلطات بإنجاز بعض الإصلاحات الشّكليّة (خصوصا منها التّعدّديّة الكاذبة) الّتي ساهمت في تلميع صورتها بعض الشّيء.
بعد 15 سنة، رأينا أنّ عشريّة الطّفرة (أي الثّروة الفجائيّة) لم توظّف لتحسين ظروف حياة الشّعوب، وأنّها قد بدّدت بكيفيّة لا تغتفر، مثلما حدث في الجزائر. وقامت دول الخليج تدريجيّا بتعويض العرب باليد العاملة الآسيويّة، مغلقة بذلك الأفق في وجوه آلاف الشّباب العرب المحكوم عليهم بالبطالة في بلدانهم.
في هذه البيئة، ماذا كان وما هو الآن وزن الصّراع الفلسطينيّ- «الإسرائيليّ»؟ هل هو حقّا مركزيّ؟ هل حلّه هو مفتاح تنمية المنطقة؟ في الولايات المتّحدة وفي أوروبّا يوما بعد يوم لا يؤمنون أو ما عادوا يؤمنون بذلك. ينبغي القول أن هذه النّغمة لم تعد تلقى آذانا صاغية وتبدو ضدّ تيّار التّطوّرات الّتي شهدتها المنطقة منذ نهاية السّبعينات. في تلك الفترة، قرّر السّادات أن يغيّر جذريّا في الوجهة والأولويات والتّحالفات- فأقصى المستشارين السّوفييت وفتح أحضانه للولايات المتّحدة- حتّى يسترجع سيناء. فتخلّى عن الفلسطينيين، ووقّع سنة 1978 اتّفاقية السّلام المنفردة كامب دافيد مع إسرائيل: قطعت البلدان العربيّة علاقاتها مع القاهرة ووجدت نفسها بذلك محرومة من رئيس الرّتل الّذي كانته مصر طوال عقود من الزّمن.
بموازاة ذلك، حمل الصّعود القويّ للعربيّة السّعوديّة ولبلدان الخليج وإشعاعها الماليّ قيما دينيّة ونهما استهلاكيّا وعطفا بل وامتنانا للقوى الأنجلو- سكسونيّة الّتي ساعدتها على توطيد سلطتها وعلى وضع البعض منها على عروشها في أراض مقتطعة على قياسها. وبينما روّجت مصر لبمصريتهاب، أرادت نخب الخليج بناء مستقبلها الوطنيّ وتأمين شبه الجزيرة العربيّة، بنوع من الشّعور الشّوفينيّ بأنّه ليس عليهم أيّ واجب تجاه «القضيّة العربيّة». أمّا الأردن، فقد جعلت من الدّفاع عن أرضها وعن سلامتها أولويّة لها وذلك بالتّخلّص من المقاومة الفلسطينيّة. وفعلت سوريا الشّيء ذاته بدخولها إلى لبنان سنة 1976 وحملاتها الهادفة إلى التّقليص من قدرات منظّمة التّحرير الفلسطينيّة وهو ما يتناقض مع خطاباتها القوميّة المتصنّعة الّتي مازالت تردّدها بحذافيرها.
الثّورة الإيرانيّة ما بين 1978 و1979 وحرب السّنوات الثّماني الّتي شنّها صدّام حسين عليها مثّلتا مدارا آخر من مدارات التّوتّر، أكثر فتكا من الصّراع مع «إسرائيل»، وساهمتا في تكذيب أنصار مركزيّة الصّراع العربيّ الإسرائيليّ. فقد أهدرت قدرة العراق على تغيير التّوازن الإقليميّ في تجنيد جميع ثروات البلاد لمواجهة التّهديد الشّيعيّ في الدّاخل مواجهة ضارية وفي التّنافس مع الجار الإيرانيّ. وجاء قرار صدّام حسين باجتياح الكويت سنة 1990 ليضع نهاية لأيّ أمل في أن تستخدم قوّته ضدّ اإسرائيلب. وهكذا، خرج العراق، ثاني أكبر بلد عربيّ بعد مصر، من المعادلة الإستراتيجيّة العربيّة- الإسرائيليّة.
لئن وضعت هزيمة 1967 والتّقارب الّذي تلاها بين مصر والعربيّة السّعوديّة حدّا للحرب العربيّة الباردة بين «بلدان تقدّميّة» حليفة للإتّحاد السّوفييتيّ، و»بلدان رجعيّة» قريبة من الولايات المتّحدة، إلاّ أنّ ذلك لم يؤدّ إلى وضع أيّ نظام أمنيّ عربيّ قادر على احتواء الأزمات وعلى إدارة الصّراعات. بل إنّ مفهوم الوطن العربيّ كان يلقى معارضة، وكان يستبدل في غالب الأحيان بعبارة «الشّارع العربيّ»، الّذي كانت تحرّكه مشاعر مشتركة ولكنّها مشاعر عاجزة في الصّميم.
بفضل موضوعة «مركزيّة» الصّراع العربيّ- الإسرائيليّ، استطاعت الأنظمة الحاليّة الاستحواذ على السّلطة، وتبرير مصاريفها المفرطة على التّسلّح وتقوية أجهزتها الأمنيّة بصفة أخطبوطيّة مستخدمة شعارات قوميّة. ولكن، من المؤكّد أن القضيّة الفلسطينيّة ليست هي الّتي تسمح بتبرير عنف الأنظمة على مجتمعاتها وهيمنتها على جميع ميادين الحياة العامّة، وليست هي أيضا الّتي تبرّر سوء الإدارة والاستبداد والفساد وقسوة المسيّرين على مواطنيهم.
ولكن، إذا كان القادة يستخدمون ضرورة الكفاح ضدّ «إسرائيل» بهذا القدر من النّجاح، فذلك لأنّ الصّراع يشكّل فعلا الوعي الجمعيّ للعرب. هنا بالتّحديد تكمن مركزيّة الصّراع: العلاقة مع اإسرائيلب تحدّد حكم وجهات النّظر على أيّة قوّة أجنبيّة وعلى توجّهات مختلف القوى السّياسيّة وخطاباتها . فبالنّسبة إلى شعوب المنطقة، يجب البحث بلا كلل عن الإطار الأمثل (عربيّا كان أو إسلاميّا) القادر على تحسين وضع العرب في مواجهة «إسرائيل». إنّها ترفض أيّة معركة لا يكون هدفها مواجهة الدّولة العبريّة وتعبّر عن تحفّظاتها على خوض معارك يمكنها أن تحيد بالطّاقات عن هذا الهدف وتكون بالتّالي «لاوطنيّة». هكذا نفسّر الإغراء الّذي تمارسه كلّ حركة تقترح إستراتيجيّة جديدة ضدّ «إسرائيل»، من حماس إلى حزب اللّه وصولا إلى نزعة البعض العدميّة للتّصفيق على أعمال القاعدة. ولئن لم يعد الصّراع يشكّل كلّيّا فسيفساء الإستراتيجيّة بالمنطقة، غير أنّه مازال مستمرّا في تحديد السّلوكيات. لقد حاول القادة جاهدين قبره، غير أنّ السّبع النّائم يعود حتما لعضّهم.
إنّ حرب الأيّام السّتّة إذن قد وسمت جيلا تعرّض إلى صدمة مثل تلك الّتي تعرّض لها الفرنسيون ذوو العشرين سنة عند كارثة سنة .1940 جيل وجد نفسه متّحدا في الهزيمة، مذهولا، و»سقطت القلوب» وفق عبارة تشارلز تايلور. الكبار في السّنّ تركوا التّحكّم في مصيرهم يصادر، لأنّ خيبتهم كانت رهيبة. أمّا بالنّسبة إلى من بدؤوا البلوغ، فكان الأمر أكثر خطورة: كان لا بدّ من بناء المستقبل انطلاقا من واقع يسبّب الشّلل. من النّاحية الفيزيائيّة، كان الفضاء العربيّ قد تغيّر. فالحرب والكثير من الأراضي خسرت. ولا بدّ مستقبلا من القبول ب»إسرائيل» على الحدود الّتي يعترف لها بها العالم، أي حدود 4 جوان ,1967 على أمل أن تكتفي بذلك، مقابل بوادر تنمّ عن نوايا طيّبة تطالب بها.
أمّا من النّاحية الذّهنيّة، فهذا الجيل قد تموقع في الزّمن بشكل مختلف. إنّه فتح عينيه على العالم وهو مدرك أنّ الأيّام الجميلة الّتي يكون فيها للمجتمعات غد مشترك قد ولّت. النّظر في المستقبل مرعب، الأفق مسدود، البوصلة لا يمكن العثور عليها في الماضي. بالنّسبة إلى الكثيرين، صارت الأسطورة لا الذّاكرة الحيّة متنفّسا لهم. إنّ الثّقافة السّياسيّة لأجيال ما بعد ,67 المعادية للإمبرياليّة أو القوميّة أو الإسلاميّة، قد حيكت على شبكة الحرب، وحدود وعيها هي خطوط وقف إطلاق النّار ليوم 12 جوان. لقد غيّرت إسرائيل الحدود العسكريّة والإستراتيجيّة وغيّرت بعد ذلك من خلال توسّعها الإحتلاليّ الوقائع الاقتصاديّة والبشريّة.
أمام هذا الغوص البطيء للبلدان العربيّة، كان لا بد للفلسطينيين أن يتحلّوا بشجاعة كبيرة: شجاعة الكفاح وتنظيم المقاومة من جهة، وشجاعة الفكر الثّاقب من جهة أخرى، للبقاء على وعي بأنّ العمل العسكريّ ينبغي أن يوظّف عاجلا أم آجلا لإطلاق المفاوضات والقيام ببعض التّنازلات. هذا ما كان يدركه ياسر عرفات وأصحابه في منظّمة التّحرير منذ بداية السّبعينات، ولكنّهم، على خلاف قادة الدّول العربيّة، لم يختاروا أبدا أن يتقدّموا منفردين من خلال فرض إرادتهم بالقوّة. لقد سعوا دائما إلى الحوار بين الفصائل الفلسطينيّة، إلى الوفاق، وبرهنوا على تعلّقهم بضرورة الدّيمقراطيّة...
غياب الدّيمقراطيّة في بقيّة الدّول العربيّة حرم المجتمعات من فضاءات الجدال ومن آليات المشاركة. بشكل جعل النّخبة المثقّفة تحاول بمفردها التّفكير في الأمر، بينما كان القادة يحاولون التّفاوض على سلام هو سلامهم، أمّا الشّعب المتروك جانبا، فهو يبحث عن حلول لقضاياه اليوميّة المكربة، في ظلال حكومات لم يعد ينتظر منها الشّيء الكثير. فهل هو فاقد للشّعور؟ كلاّ، إنّه بالأحرى استسلم للعجز، بيد أنّه يفتّش عن أنماط بديلة من التّنظيم الاجتماعيّ.
الماضي، «سمّ المثقّف» ، وفق تعبير پول فاليري، لم يعرف العرب كيف يناقشونه ولا كيف يتجاوزونه... إنّ تسوية القضيّة الفلسطينيّة تظلّ بالنّسبة إلى الجيل الّذي دمغته هذه الحرب الشّرط الّذي لا يمكن الالتفاف عليه والعنصر المحرّك للنّظر بصفاء إلى المستقبل. عند تجاوز هذه الدّائرة الضّيّقة، سيكون من الممكن حينئذ معارضة السّلطات القائمة ودفع الدّيمقراطيّة والحرّيات دون أن يجد الواحد نفسه متّهما بخيانة القضيّة الكبرى، وسيكون من الممكن التّساؤل عن وزن الجيوش والدّوائر الأمنيّة في حياة المجتمعات، وإعادة النّظر في ا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.