قد تكون تداخلت الأمور عند القارئ من خلال عناوين المقال .. لكنها عندنا كذلك بل أكثر حيث لم يكن من اليسير علينا تحديد وجهة المقال وعن أي زاوية من الموضوع يمكن تناولها أو رصدها .. احترنا أمام كومة من المسائل منها الاجتماعي الصرف ومنها الإنساني البائس ومنها الشخصي المؤلم ... إلا أن ما لمسناه من ردّة فعل مذهلة من المصالح الطبية الجامعية في المنستير بناء على ملحوظة صحفية عابرة... هذا الذي لمسناه جعلنا نأخذ كل المسائل مجتمعة في تقرير مفاده أن في الوطن وجعا ونقائص وهناك أيضا بلاسم وإرادة تدارك ... طارق ... البوابة ... الصدفة وحدها كانت وراء التطرق الى ما سيأتي .. وكان ذلك عند مرورنا رفقة إحدى الزميلات بمنطقة وادى العبيد على الطريق الرابطة بين تونس والهوارية ... وهي المنطقة التابعة اداريا الى معتمدية تاكلسة ... هناك وسط الغابات برز أمامنا طفل في حدود الخامسة عشرة من العمر أسمر البشرة وزاده لفح الهاجرة سوادا على سمرة ملوحا لنا بخبزة طابون... وكان التوقيت الثانية ظهرا في تلك الأيام المتّقدة التي مرت علينا أخيرا... ورغم أننا لم نكن في حاجة لا للخبز ولا لغيره فإن زميلتي أصرت على أن نتوقف وكأن مسّا هاتفها ... متسائلة ماذا يفعل هذا الطفل في هذا الوقت وفي أيام الأمتحانات بالذات وهذا هو موضوع مهمتنا أصلا ... توقفنا وابتعنا الخبز وسألناه ما أخبار الدراسة فكانت الاجابة بكثير من المرارة وبدمعة كبيرة في أحداق صغيرة ... «بطلت» عندها كبشت «صديقتي وكْبرْ» النهار... افتح المحضر.. و»بالتحري» كما يقول رجال المباحث وأي بحث هذا الذي فتحناه تبين أن هذا الطفل لم يكن إلا رجلا صغيرا ... حيث وبعد إصابة والده بجلطة في الدماغ أقعدته عن الحركة وبالتالي عن العمل وعن إعالة أسرة متكونة من زوجة وأم وطفلين أحدهما طارق ... الذي كان الى وقت قصير تلميذا بين أقرانه يدرس ويلهو ويمرح ويحلم بيوم يبدل فيه : «وادي العبيد» بحدائق غناء!! إذن وبعد اصابة والده انقلبت حياة العائلة الى جحيم حيث دخلت في نفق لا ضوء ينبئ بنهايته ... فاختار طارق المسار المرّ وهو الانقطاع عن الدراسة (السابعة اساسي) ليعيل عائلته ويعالج أباه الذي تملي طبيعة مرضه تنقله بين الفينة والأخرى الى أحد مستشفيات العاصمة على متن شاحنة مقابل 100 د يعود في كل مرة منها منهكا وببطاقة موعد آخر وهكذا على مدار سنتين أو أكثر. الأمر الذي دفع بالأسرة الى بيع كل ما تملك من شويهات وحتى الدجاجات والديك انقرضوا على حد تعبير أحد أجوارهم ... وفي ظل هذا الوضع لم يعد أمام طارق وأمه الا الاختيار الأخير وهو بيع الخبز على قارعة الطريق واحيانا في قربص المجاورة ... وفعلا انخرط طارق وأمه في هذه السمفونية المريرة ... حيث تنهض السيدة مفيدة قبل صياح الديكة لتخترق أشجار «السكّوم» والقندول متحدية فعلها الجارح لتظفر ببعض الأحطاب والأغصان اليابسة بعيدا عن عيون الساقجي وزبانيته ... تعود بعدها لتجد العجينة التي جهزتها قبل الفجر في انتظارها وقد تخمرت فتوقد الطابونة وتصافح النار قبل أن تصافح ولدها مرسلة اياه الى ضفاف الاسفلت شاهرا خبره على مدار اليوم ملتهبا كان أم عاصفا ... خالتي رقية إذا كانت الحال كذلك بالنسبة لطارق وأمه السيدة مفيدة فإن لبقية الأسرة كلاما آخر، وليس أبلغ من كلام خالتي رقية التي يحكي جبينها المقطب بل يسرد فصولا أخرى من المعاناة... فإذا كلمتك عن ابنها محمد أبو طارق وصورت لك مصيبتها فيه بعد الجلطة القاسمة التي تعرض لها والتي ذهبت أو تكاد بنصفه الأيمن تشخص أمامها، وإذا حدثتك عن معالجتها المستديمة لمادة الطفل لصنع الكوانين وما اليها من الأواني الفخارية ... لا تملك إلا أن تقول لها بورك فيك خاصة أن ريع تلك المعاناة التي أحنت منها الظهر يذهب (أي الربع) الى خلاص القرباجي أي بائع الماء!! الذي يسقيهم مقابل 50 مليما للتر الواحد !! في غياب الماء المشروب حيث أن الماء الذي زودت به القرية غير صالح بحكم انه مجلوب من بئر عن طريق جمعية قيل لنا أنها تحصلت على جائزة!! فهذا الماء بشهادة كل المواطنين غير صالح للشرب حتى لو أكد «الخبراء» و»العلماء» وكل الجمعيات أنه كذلك ... وإلا فما الذي يدعو خالتي رقية الى الخصاصة التي تعيش وأمثالها على اشتراء «ديكالتر» من ماء سيدي داود البعيد بنصف دينار أي وعلى رأي أحد الرعاة ويدعى كريم تكون الشربة خاصة في «القايلة» ب 50 مليما . كل ذلك في حضور فاتورة الجمعية التي لا تفوقها فاتورة الصوناد العادية إلا بالصبر ... وبالتالي فهذه البئر التي زود الاهالي بمائها تعتبر بغير مروءة طالما لا تروي الظمأ رغم أن هذه المنطقة غير بعيدة عن مركز المعتمدية «بئر مروّة». نقطة ضوء... بل قل هي شعلة نور قدفه الله في صدر هذه العائلة.. مصدرها كان مستشفى فطومة بورقيبة بالمنستير بكل مكوناته من الاطار الطبي وشبه الطبي الى المدير العام ... هؤلاء جميعا انطلق تحركهم من خلال ورقة صغيرة من الملف الطبي للسيد محمد الصويعي (أبو طارق) عرضناها على قسم أمراض القلب خلال مرورنا بمدينة المنستير ولم نكن نتوقع أن يكون الرّد على تلك الشاكلة المدهشة فقد سارع بل انقضّ الدكاترة على الحالة وطالبونا بجلبه فورا أودلّهم عليه ليتولوا هم الأمر ... وفعلا تم الاتصال به وجلبه للتو من على مسافة 160 كلم وأخضع الى صور وتحاليل وفحوصات بين المنستير ومستشفى سهلول توجت بعملية قسطرة ليزرية كللت بالنجاح الباهر حيث تم انقاذ ما يمكن انقاذه (باعتبار تأخر التدخل). ورغم التكتم الطبي لأن في المسألة صحافة! فإننا اخترقنا هذا الجدار وعلمنا انه من أخطر التدخلات التي حدثت بنجاح خيالي هي تلك المتعلقة بالصمام التاجي الذي تم فتحه بنسبة تناهز الثمانين في المائة ممّا يرفع أمل الحياة للمصاب الى عقود بمشيئة الله بعد أن كانت لا تتجاوز كلينكيا أياما أو أشهرا معدودات ... علما أن التدخل المباشر على القلب كان بعد «جولة» ناجحة للسيد محمد الصويعي بين أقسام عدة في صلب نفس المستشفى كللت بالضوء الأخضر لقسم القلب. للأمانة و للتاريخ هذا التقرير ابتدأ بطارق بياع الخبز على جنبات الاسفلت الذي يشتعل كاللظى يشتعل على طريق تونس/ الهوارية وانتهى في قسم أمراض القلب بالمنستير على مدى 29 يوما وهي الفترة التي انتظرناها للنشر حتى نؤدي الأمانة بكل نزاهة وصدق والذي يملي بل يفرض علينا فرضا ان نحيي الأسرة الموسعة لمستشفى المنستير خاصين بالذكر السادة الدكاترة الأستاذ فتحي بتبوت والدكتور المجدوب والدكتور الفلسطيني الأصل تونسي الهوى حمزة الى جانب الطاقم شبه الطبي من ممرضين وعمال دون أن ننسى الإدارة العامة التي عبرت عن استعدادها لإتمام هذا الجهد الخارق بايصال المريض الى أهله سليما معافى... كل هذا للأمانة أما للتاريخ فنقول قولا موجزا وهو أن القطاع العام يبقى الشفر الباكي على العامة... واسألوا محمد الصويعي وطارق وخالتي رقية ان كنتم لا تعلمون. آه ... لو يقتدي هذه الآهة ليست عنوان معاناة بل عنوان أمل عبر عنه أهالي وادي العبيد الذين هبوا لاستقبال جارهم الطيب محمد سليما معافى حيث استعطفوا مدير الشركة الوطنية للمياه بأن يقتدي بمدير المستشفى فيشفيهم من ماء الجمعية بماء الشركة الوطنية ... ها قد بلغنا... اللهم فاشهد.