بنظرة جرد سريعة على الخمسين سنة التي مرت من عمر الجمهورية، يمكن القول والاعتراف برأس مرفوع أن الحصيلة ايجابية، بل ايجابية للغاية. تكفي الاشارة في هذا الباب على سبيل الذكر لا غير الى التعليم وكيف انتشر مجانا في القرى والأرياف والمداشر وأعالي الهضاب وسفوح الجبال ومجاري الاودية، الى الصحة حيث جرت مقاومة الرمد والسل وغيرهما من الأوبئة وتثقيف الناس على النظافة والتداوي، الى التنظيم العائلي حيث أدّت السياسة المتبعة الى تفادي ذلك الانفجار السكاني الذي كان يتهدد بلادنا، الى البنية التحتية التي عمّرت مدننا وقرانا وأريافنا فأوصلت لها الحياة ونقلت اليها الحضارة، الى التجهيزات المختلفة، الى النقلة النوعية التي جعلت الارض غير الارض. تكفي الاشارة أيضا الى مجلة الأحوال الشخصية التي حررت المرأة التونسية من عقال التخلف والجاهلية وجعلت منها شريكا للرجل، تتقاسم معه التضحيات وتكسب معه الرهانات ، الى منظومة القوانين الاجتماعية المتعلقة بعلاقات العمل والمؤسسة للضمان الاجتماعي، والداعمة للشراكة بين الاطراف الاجتماعيين من خلال آليات تستند أولا وأخيرا الى الحوار والتشاور ، الى قاعدة من المؤسسات الاقتصادية والانتاجية التي تكفلت بإقامة الاسس المطلوبة لاقتصاد البلاد الناشئ ، الى سلسلة من النظم التي حققت للبلاد شخصيتها المالية، الى انجازات ومكاسب أخرى كثيرة لا نستطيع لها حصرا ولا يقدر هذا المجال على احتوائها. لكن هذه المسيرة التي تبدو وردية في ما ذكرنا من مجالات لم تسلم من بعض المنغّصات بل ومن العثرات التي أحبطت الكثيرين وثبّطت عزائمهم ودفعت بعضهم الى الحلول اليائسة، وذلك بسبب الانفراد بالرأي واحتكار السلطة والجنوح إلى العنف بدل الحوار والميل الى التصرف الكلياني في مختلف الامور. نذكر كأمثلة، الازمات التي فرضت على الحركة النقابية وعلى قادتها في 1957 و1965 و 1978 و1985 ، وعلى الجامعة والطلبة والمثقّفين وأهل الفكر، كما نذكر المحاكمات السياسية التي لم تسلم منها أي عشرية والعمليات الدموية التي وقع فيها اللجوء الى استعمال السلاح سواء في بداية الستينات عندما وقع الحديث عن انقلاب عسكري او أواخر الستينات عندما وقع جبر الفلاحين بقوّة السلاح على التنازل عن أراضيهم في اطار التسريع بعملية التعاضد او في مطلع سنة 1978 لقمع النقابيين والعمال المضربين يوم 26 جانفي او كذلك في سنة 1980 حيث هاجمت مجموعة مسلحة مدينة قفصة وحاولت الاستيلاء على مراكز السيادة الموجودة فيها ، قصد اعلان فصلها عن البلاد او في منتصف الثمانينات عند مواجهة ما سمي بثورة الخبز او بعض المجموعات المتطرفة التي سعت الى احداث القلاقل مستغلة في ذلك نهاية حكم الرئيس بورقيبة ، وأخيرا تلك المجموعة أقضّت مضاجعنا في نهاية العام الماضي. ولا مجال للشك في ان الاشارة الى مثل هذه المحطات إنما هو من باب استخلاص العبرة ولفت الانتباه وهذا رأي لا يلزم إلاّ شخصي المتواضع الى ضرورة دعم مكاسب الجمهورية بما ينقصها من انجازات حقيقية تتناسب والمستوى الراقي والنضج الرفيع اللذين بلغهما شعبنا وذلك باعتماد الممارسة الديمقراطية الفضلى والتعددية المتكافئة والارتقاء بالممارسة الانتخابية الى الحدّ الذي يجعلها من خلال النتائج التي تفرزها، تعكس حقيقة الشعب التونسي وتفكيره وميولاته وتسهّل عليه قبول الآخر، وتحمّل المختلف والمخالف وتضمن للجميع التعايش الآمن والأمين والشراكة الفعلية والمتكافئة في تصريف شؤون البلاد والتفكير في مستقبلها وتحقيق تنميتها وتقاسم التضحيات من أجلها تماما مثل تقاسم ثرواتها بالعدل والمساواة. لقد آن الأوان أكثر من أي وقت مضى حتى نسرع الخطى في اتجاه تحقيق هذه الرغبات التي ناضل من أجلها الآلاف من أبناء هذه الارض المعطاء وآن الآوان حتى نرتقي سياسيا ببلادنا الى المرتبة التي تجعلها فعلا نموذجا فريدا من نوعه ، وحتى تكون في المجال السياسي «معجزة» على غرار ما هي في المجال الاقتصادي والمالي باعتراف الأشقاء والاصدقاء . ومهما يكن من أمر، فاننا سعداء بجمهوريتنا ونهنّئ شعبنا بذكراها المجيدة وبالانجازات والمكاسب التي تحققت له في ظلّها، كما نهنّئ رئيسنا بثمرة جهوده في الحفاظ على الجمهورية وقيمها النبيلة وقواعدها السليمة مردّدين مع الجميع والى الابد : تحيا الجمهورية .