كنت أتابع موجزا تلفزيا لزيارة الرئيس الفرنسي الجديد لبلادنا وفي جعبته مقترح لبناء اتحاد متوسطي يضم بلدان الضفة الجنوبية لهذا البحر العظيم تدخل فيه اسرائيل كاملة الحقوق على غرار شراكة برشلونة وهو الكيان الثاني بعد المنتظم الاممي الذي يوجد فيه الكيان الصهيوني الغاصب بهذه الصفة الكاملة ضمن المجموعة العربية بكامل حباتها... سألني ابني وهو يقصد غضبي لا غير فأنا اعلم انه ابعد ما يكون عن السياسة والاهتمام بالشأن العام، بل ويعتبر ان كل هذا هو من باب «دق الحنك» الذي لا يوسع ضيقا ولا يفرد جناحا، فالاهم عنده الشهادة العلمية واقتلاعها بالجهد العارق من بين ناب الاسد وظفره.. سألني قال: هل يتوحد العرب وتقوم لهم قائمة قبل يوم القيامة...؟ سؤال كهذا هو غير عفوي، وهو الاعلم بميولي النضالية والعقدية، سؤال اذلني ونحن على المائدة لتناول وجبة اختزلتها ربة البيت في سلطة وعجين وبعض التفاصيل الثانوية جدا والعتب على الميزانية التي تذبحها فلا يصل دمها الى الارض وجبة مصحوبة بتحذير شديد اللهجة من قبل «الربة» حتى لا نريق المرق على «الناپ» الجديد... سؤال زلزل وقاري «كرب» للأسرة، وما اكثر «الربوب» في خطاباتنا وموروثنا الحضاري وارثنا الثقافي على غرار ربة البيت... رب الاسرة... رب العمل... والقائمة طويلة وتطول، حاولت ان أجيب عنه وانا افتعل الجدية... قلت : لئن فشلت دول الاستقلال العربية في تحقيق الوحدة العربية فذلك لأنها لم تسلك لها مسلكها الصحيح ولم تسع اليها سعيها الصادق الامين وركبت الطفرات والمناسبات لتقمص دور المخلص للمبدأ العامل من اجل جمع الشمل وتوحيد الكلمة... ويا ليتها وقفت عند هذا الاثم بل زرعت هذه الدول الغاما وقنابل موقوتة ظلت تنفجر في كل مرة ولا تزال الى يوم الناس هذا فما قام للوحدة حجر على حجر... فما من دولة نالت الاستقلال الا وكانت لها مع شقيقتها خلافات وحزازات وما اقدرنا على بعضنا يا للعجب.. لقد قام خلاف بين مصر والسعودية من اجل اليمن.. وقام خلاف بين السعودية واليمن من اجل الحدود ونظام الحكم.. وقام خلاف بين الاردن والعراق من اجل العرش.. وقام خلاف بين سوريا والعراق من اجل العقيدة البعثية والاخلاص للرفيق ميشال عفلق.. وقام خلاف بين العراق والكل العربي من اجل ابتلاع الكويت.. وقام خلاف بين ليبيا ومصر من اجل الامانة والزعامة.. وقام خلاف بين تونس وليبيا من اجل الجرف.. وقام خلاف بين تونسوالجزائر من اجل الحدود.. وقام خلاف بين الجزائر والمغرب من اجل الرمل.. وقام خلاف بين المغرب وموريطانيا حول الاعتراف والاختلاف حول التراب الوطني.. والقائمة تطول فكان عهد الخلافات بامتياز وعهد الانكفاء عن الذات بامتياز وعهد الريبة والخوف من الشقيق والاحتياط منه بامتياز وعهد شراء الاسلحة الفاسدة الخردة بامتياز وعهد الانشغال عن التنمية وهدر القدرات بامتياز.. فهل في مثل هذه المناخات تقوم الوحدة؟ نعم.. لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس.. نعم يمكن ان تقوم الوحدة ولنا في التاريخ المثل والامثولة عن القارة الاوروبية التي كان بينها ما كان من حروب واقتتال ثم توحدت وبنت كيانا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا هو اليوم فوق السيادات الوطنية حيث وفق في تكريس مفهوم المواطنة الاوروبية متواصلا بذلك مع حلم راود الاجيال السابقة سنوات وتم تجاوز مفهوم الجنسية الضيق والعالم يدق على ابواب المواطنة الكونية.. علق ابني وهو يدش فخذ الدجاج دشا.. أليس بين بني قومك، و «عربك» اكثر من الحروب والاقتتال مما صنع الحداد؟ قلوبكم سوداء وحقدكم متجدد لا تجف له غدير.. ضغائنكم وشككم وريبتكم وتخوفكم وخوفكم من بعضكم تأخذ شكل المرض المزمن المستفحل الذي لا يرجى برؤه.. واضاف: ان تاريخهم (العرب) كتاريخ جحا موغل في الغرابة.. الا تستمل سيوفهم وتغادر اغمادها بينهم لأتفه الاسباب.. وما اشجعهم واقدرهم على بعضهم؟ أليست خلافاتهم خلافات أمزجة وأهواء؟ واختتم حديثه. أما اقلعتم عن هذه العنتريات التي لا تقتل ذبابة وهذا التغني التعيس بأمجاد الماضي؟ اما تخليتم عن تصريف فعلي كان في الماضي وانتم تسقطون اليوم السقوط المدوي لآخر المراتب في كل شيء؟ اما تخجلون وانتم كأمة تطلون على القرن 21 بأكثر من 70 مليون أمي في وطن يمتد اكثر من 8000 كلم وهو يسبح في بحر من النفط؟ اسئلة كانت تطلق الرصاص نالت من وقاري واثارت في الغيظ وآلمتني كثيرا، وقديما قيل: سبك من بلغك السب.. ولكن ما ذكره ابني حقائق وتاريخ لا يمكن لي ان انكرها، وهي عبر ودروس حتى وان كانت مُرة، والغريب ان العرب اقل الامم احتفاء بالتاريخ.. هذا العلم الذي اقامت به مدينة «فرنكفرت» الالمانية برلمانا نوابه من كبار اساتذة التاريخ وعلمائه بالمدينة... هنا كان لابد ان اتعسف واتسلط وأتجبر وأتسيد بسلطة الاب لأقمع ابني وآمره بلهجة العنف العادية التي لا تغادر كالوشم: اسكت انت تشنع عن العرب وانت منهم لقد خيبت أملي فيك.. ان خلافات العرب جزئية وظرفية عابرة وهي تحدث بفعل فاعل لا يريد الخير لكل العرب هو الاستعمار اللعين الذي لا يهمه الا مصلحته مثل بيع الاسلحة التي ثبت انها لا تصلح لا للدفاع ولا للهجوم.. وعلى كل حال هذه مسائل صارت في حكم التاريخ ولا فائدة في الرجوع اليها.. الا ترى ان العرب اليوم اكثر وعيا واكثر تبصرا بمصالحهم الآنية والمستقبلية، المرحلية والاستراتيجية. لم يقتنع ابني وهو عنود كسلحفاة بحرية واعاد السؤال: ولكن اجبت هذه المرة بكل اقتضاب: يتوحد العرب حين يسكت العرب وتغيب الزعامات والقيادات والامانات والنزعات من كل الاطياف التي فشلت بكل التسميات من قوميين حركيين وقوميين ناصريين وقوميين بعثيين وقوميين خضراويين وقوميين اشتراكيين وقوميين تصحيحيين وقوميين شيوعيين وقوميين ديمقراطيين. قد يتوحد العرب حين يتحولون الي قوميين مصالحيين «سركوزيين» يعملون كما عمل الاوروبيون على تشكبيك المصالح وتبادل المنافع حتى وان استعانوا «بسركوزي او برودي او زباتيرو فالاهم حذق فن «تدوير الزيرو» وتوفير «الدورو» عندها تحقق الوحدة وتزول الشدة وتلتحم شعوب هذه البلدان بلحام لا ينفصم لانه يتصل بالقوت وما يصل الفم... عثمان اليحياوي