إنني على قناعة، أن قراءة غسان كنفاني قراءتان، قراءة لنصوصه، وقراءة لحياته. في الأولى، نجول في عوالم المخيلة، والرؤى، والذات ومواجعها، والناس وحرائقهم الأبدية. وفي الثانية نمسك بيد التاريخ الذي يدلنا على البقع الأرجوانية العديدة بدءاً من طفولة غسان في عكا ويافا، ورحلة المنفى إلى صيدا وبيروت، ثم حمص، فالشام. وحياة القهر والمغالبة، والسخرية المرّة من الأزمنة الباهتة، والظروف المعطوبة باليباس القحل. بكاء الأم الصامت، تآخيها والليل، والشرود الطويل، وقلق الأخت الكبرى فايزة التي تريد اختراع درب لإخوتها غازي، وغسان، وعدنان، ومروان.. ومن ثم حسان.. درب لا التواء فيه أو تورية في زمن صار جوهره الالتواء والتورية. وأب مازالت عكا تركض في دمه، حقولاً، وناساً، وذكريات، وأمكنة؛ أب تأخذه حمى الاقتلاع تأخذه من دور إلى دور وهو في عزّ صحوه وفتوّة الشباب. غسان الذي يجمع أكياس (الشمنتو ) الفارغة من أمام البنايات، والبيوت التي تبنى حديثاً ليصوغها أكياساً جديدة بمساعدة صمغ أشجار الزبداني، ثم كتابته للعرائض أمام المحاكم، والصبر على الناس وهم يفتحون جروحهم أمامه، والفُرجة المؤسية على همومهم الولود يومياً، ثم حلول اللعنة المركبة.. مرة أخرى، فبعد تشرد الأسرة بكاملها من فلسطين إلى لبنان إلى سورية، بدأت أعراض اللعنة الجديدة.. تشرد أفراد الأسرة واحداً واحداً في غربة أزلية لابد منها. تتغرب الأخت الكبرى فايزة.. بصك شهادتها الثانوية، فتترك البيت لتدّرس في بلدة قارة يصحبها أخوها غسان الذي يسوّغ بحضوره هذا الغياب أو يقلل مفاعيله، ثم تتغرب فايزة مرة أخرى إلى الكويت وحيدة، ليلحق بها بعد عام أخوها غازي، ثم يلحقها بعد سنوات أخوهما غسان.. وبذلك تنقسم الأسرة إلى أفراد.. هنا وهناك، وإلى أمكنة، هنا وهناك، وإلى عواطف ومشاعر، هنا وهناك، بعدئذٍ يطير غازي إلى أمريكا ليدرس الهندسة الزراعية، وتتزوج فايزة بعيداً عن الشام، ويغيّر غسان منفاه من الكويت إلى لبنان، وبذلك تتجسّد الغربة المركّبة.. لتصير هي ثقافة البيت؛ ثقافة النص الذي سيكتبه غسان، ثقافة المقاومة تجاه الزمن الأصفر، الشاحب المتصالح كذباً مع التاريخ، والناس، والمستقبل. ويوغل غسان في الغربة حين يمضي في ذهابه الأخير، في 8 تموز 1972. (2) كلما أقرأ نص غسان كنفاني المكتوب، أشعر بالحاجة الملحة لقراءة نص حياته الحقيقي لقناعتي بأن أحدهما وريث الآخر، وأحدهما طاقة الآخر ومخزونه، وأحدهما متراس الآخر وخندقه، وأحدهما سبب الآخر أو نتيجته. أشعر أن نص غسان كنفاني المكتوب يصير أحلى وأكثر زهوّاً حين يتداخل وحيوات الأب المحامي، والأم موقد البيت وجمره، والأخت الشبيهة بتلك الأخت الوحيدة للأخوة السبعة في قصص الشطّار وحكاياتهم؛ الأخت الباحثة عن سعادتها طيّ سعادة أخوتها. لهذا أشعر أن محبة نصوص غسان كنفاني المكتوبة تتضايف اكتمالاً بمعرفة حياته التي عاشها، وتعالقها مع حيوات أخوته ووالديه. وإذا ما كان غسان كنفاني وريثاً لشيء من والديه وأخته الكبرى، فإن ذلك يتمثل بالطموح الذي لا يعرف النهايات، لا بل أكاد أقول الطموح الذي لا يعرف الخواتيم قط! ولذلك أرى بأن لغسان كنفاني أربعة آباء، والداه، وأخته الكبرى فايزة، وتاريخ حياته المُر! وحين أقرأ نص غسان كنفاني المكتوب أتعجب حقيقة من قدرته على الامتلاء دائماً حتى ليبدو لي أن كائنات أو خلقاً خفيين يعملون ليل نهار على نص غسان كنفاني ليظل ممتلئاً وغنياً بالأسرار والكشوفات الجديدة، أو لكأن الزمن يعمل لدى نص غسان كنفاني يداً تمحو القدم كيلا تصيبه لوثة البلى، ويداً تُبقي معنى القدم شاهداً على الابتكار الأصيل، والروح المتجددة، والأبدية البادية. أقول هذا، وأنا أقرأ نصوص الذين سبقوا غسان كنفاني في الكتابة الأدبية، والأسماء كثيرة، فلا أجد في نصوصهم الحيوية، والغنى، والجمالية، والأبدية المشتقة من الطبيعة كما هي موجودة في نصوص غسان كنفاني. أحس بإحساس عميق أن نصوصهم كتبت عن الماضي؛ عن خلق عاشوا في الماضي وساكنوه؛ وعن أمكنة صارت بعيدة نائية؛ أمكنة لا تلامسها مشاعرنا ولا تحنّ إليها، وعن تشوفات وأحلام بانت ماضوية، أحس بأنها نصوص لا تُورّث، وأن ما من أحد يوصي بقراءتها إلا باعتبارها تاريخاً، وبدءاً لنشأة العمران القصصي الفلسطيني، كما أقرأ النصوص التالية على نصوص غسان كنفاني، فأجد معظمها، والأسماء كثيرة، مصاباً بلوثة المناسبة، والتعليق على الأحداث، واستجداء الرضا الآني الكذوب للجريدة المقاومة،والمخيم المقاوم، والزمن المقاوم، وسيد الإعلام المقاوم، ودائرة الإعلام المقاومة، والسقوط المقاوم، والبيتزا المقاومة.. إلخ. بلى، ثمة أمر مخالف، ونوعي، وسرّاني تماماً موجود في نص غسان كنفاني والذي أشخصه على النحو الآتي: موهبة إبداعية فذّة نادرة الحضور، وإيمان نبيل وعميق بالإبداع، يجسدهما عمل دائب دائم كخزّاف أبدي النقش والصقل، وسلوك مشدود إلى القيم السامية، وانشداد حاسم أصيل إلى حلم أصيل، ووعي ثقيل كالرصاص بآثار التراجيديا الفلسطينية.. لهذا أتساءل هل كان غسان كنفاني يشعر على نحو مبكر بأن الفلسطينيين هم يونانيو العرب، وأنه هو شاعرهم هومير؟! بلى، لعل غسان كنفاني كان يشعر بذلك، فلولا هذا الشعور الغامر لما أبدع غسان كنفاني إبداعه الذي يماشي الزمن خديناً له في الأزلية، والحضور، والسطوة، والأهمية والاعتبار. ولولا هذا الشعور لاكتفى غسان كنفاني بأماديح الصحافة اللبنانية ورجالها، إذ لم يكن في تلك الآونة، مساء يَعمُر بالناس والأحاديث إلا وكان اسم غسان كنفاني جرساً يرن فيها مثل رنين الفضة المعتقة، وما كان يدور حوار أو نقاش حول الأدب في مشرق بلدان العرب أو مغربهم إلا وكان إبداع غسان كنفاني حاضراً كإنجيل أدبي لشعب صغير جداً أنتج زمنه المنهوب مأساة كبيرة جداً! ولولا ذلك الشعور لاكتفى غسان كنفاني بالريادة، والمكانة، والأستاذية الأدبية في منفاه الأول في الكويت.. حين لم تكن هناك قصة أو رواية، ولولا ذلك الشعور لاكتفى غسان كنفاني بالوجاهة السياسية، والصحبة الطيبة، ورضا أستاذه الحكيم جورج حبش، ولولا ذلك الشعور.. أيضاً لاكتفى غسان كنفاني بسطوة المسميات (كرئيس التحرير)، و(الناطق الرسمي)، و(مؤسس اتحاد الكتّاب والصحفيين)، و(رئيس دائرة الإعلام).. ذلك الشعور بأن شعبه ينهض مرة أخرى وأخيرة، وأنه هو شاعره الذي يعدّ له موثباته، هو بالضبط ما جعله يصير منجماً للإبداع الصافي؛ منجماً يتعاون فيه الألم والقهر والحزن والحنين والقلق والخوف والطموح والموهبة من أجل إنجاز الصياغة الأخيرة لدمغة الأدب الكنفانية. (3) دائماً، ما تحلو لي المقارنة ما بين غسان كنفاني واثنين من مبدعي العرب والغرب معاً، وذلك لما تميّز به هؤلاء الثلاثة ولما اتصفوا به من مشتركات كثيرة، هذان الاثنان هما المتنبي، وهمنغواي، وثالثهما غسان كنفاني؛ كلهم أصابهم سهمان، الأول: سهم الغربة. والثاني: سهم الموهبة الراقية والطموح العالي. انظروا إلى هؤلاء الثلاثة، واعصروا تجاربهم وحيواتهم، وراقبوا سلوكهم، وادخلوا نصوصهم، واقتربوا من أحلامهم قليلاً، وقفوا على تاريخهم.. إن فعلتم ذلك.. لن تجدوا سوى الموهبة النادرة، والإبداع الصادق والنفس القلقة التي لا تقف عند عتبة،لا بل ستجدون أنهم أورثوا البشرية قرى من الإبداع الشعري والنثري معاً. ثلاثة عقول، وثلاث مواهب، وثلاثة رجال، وثلاث تجارب، لم يقوَ عليها الزمن ولا الحاسدون، ولا الطغاة الصغار إلا بالقتل! لكن، يا للعجب، فلم يكن الموت لدى هؤلاء الثلاثة سوى نقطة انطلاق لخلود حبّروه مساهرةً للإبداع الصافي، والقضايا المؤرقة، وإيماناً بالإنسان والإنسانية في آن واحد. والحق، فإن العين الرائية إلى نصوص غسان كنفاني.. تشير إلى أنه لم يهتم بالمخيم الفلسطيني كمكان، لقناعته بأنه مكان طارئ، قارب جغرافي ليس إلا، وسهرة ليلة فحسب. ولم يهتم بالبندقية لاعتقاده بأنها أداة ووسيلة، ولم يُجسم حضور القواعد الفدائية لأنها خنادق تتلوها خنادق، لأنها حاشيةً من حواشي الحياة الفلسطينيةالجديدة، أو الممتدة أو هي مستلزم من مستلزماتها، ولم يمتدح غسان كنفاني البيوت، أو الطرق، أو الأشجار، أو العواطف والمشاعر والآمال.. إلا لأنها مؤثثة بأنفاس البشر الصادقين. والعين الرائية إلى أدب همنغواي وشعر المتنبي تدرك أيضاً مدى اهتمامهما بالإنسان ونزوعه الأبدي للوصول إلى المشتهى النائي المحلوم. (4) ويا للعجب الذي لا يصدق، في زمن لا يصدق أيضاً.. أن نقراً من الذين يكتبون التاريخ الأدبي يريدون طيّ صفحة غسان كنفاني باعتباره ماضوياً، كما يريدون المرور بالمتنبي وهمنغواي مروراً عابراً ( وهم بذلك أشبه بالذين يعرفون القرى من اليافطات التي تحمل أسماءها فقط)، لكن الحارس الأكبر، أعني الزمن الذي في طالع صفاته: الديمقراطية.. يرفع بيديه مرآتين، الأولى: تُري هؤلاء العابرين قاماتهم وصورهم الحقيقية، فينكفئون على أنفسهم مثل القنافذ.. لضآلتهم. وفي المرآة الثانية: يريهم، أي الزمن، غسان كنفاني بتمام قامته المضاءة لأنه واحد من الفلسطينيين المتحدرين من سلالة النور.