كان العلاّمة عبد الرحمان ابن خلدون أول من تطرّق لمسألة القبائل منذ القرن الرابع عشر وتبيان دورها في تشكيل ما يُسمّى بالعصّبية، ثمّ اشتغل العديد من الباحثين الفرنسيين على مفهوم القبيلة ودورها في علاقة بالاحتلال الفرنسي لدول المغرب الكبير منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ليأخذ مبحث القبيلة جدالا واسعا منذ مطلع القرن العشرين بين البحّاثة والأنثروبولوجيين والمنظرين خاصة فيما يتعلّق بطبيعة هذا المكوّن البشري من حيث الانقسام والتوحّد.. وفي هذا السياق كان للجامعة التونسية دور كبير في قراءة ظاهرة القبلية في تونس وقد تميّزت أجيال من الباحثين الجامعيين في علمي التاريخ والاجتماع خاصة وكانت الإسهامات نوعيّة وغزيرة ويكفي أن نذكر أعمال الهاشمي القروي وعلي المحجوبي والهادي التيمومي والحبيب عطيّة والذين انضمّ إليهم الدكتور محمد الحمّاص بمبحثه العلمي الذي وسمه بالاستعمار الفرنسي وقبائل الوسط والجنوب بالبلاد التونسية ونشره مؤخّرا عن منشورات مركز النشر الجامعي. الدكتور محمد الحمّاص هو من مواليد مدينة القيروان، تعلّم بجامعتي تونس وليون بفرنسا وتحصّل على شهادة الدكتوراه مرحلة ثالثة وعلى شهادة الدكتوراه في التاريخ، ومحور اهتمامه الأساسي هو تاريخ حركات التحرّر الوطني (1881 1956) ولذلك اهتمّ في أطروحة الدكتوراه التي تحصّل عليها في جانفي 2003 بعلاقة قبائل الوسط والجنوب بالاستعمار الفرنسي بعد أن اطلع على المراجع المتعلقة بالموضوع، التونسية منها والأجنبية. ويعزو الدكتور محمد الحمّاص اشتغاله على هذا المبحث مثلما تُبيّن ذلك مقدّمته لكتابه إلى أنّ موضوع القبائل التونسية غير مطروق بما فيه الكفاية، ولئن كانت المناطق الشمالية والساحلية قد حظيت ببعض الاهتمام فإنّ منطقتي الوسط والجنوب تشكوان نقصًا في هذا المجال. ولذلك خصّص الباحث عمله لقبائل جلاص والهمامة والفراشيش وأولاد سعيد وورْغمة والودارنة والمهاذبة وهي قبائل عُرفت في تاريخ تونس بدورها البارز في تشكيل جبهة صدّ حقيقية ضدّ المستعمر الفرنسي منذ أولى أيّام دخوله للبلاد التونسية سنة 1881 الى جانب دور هذه القبائل في انتاج الثروات الفلاحية والحيوانيّة وتحمّل أعباء الضرائب والتجنيد ووقوفها ضدّ استبداد البايات . خاصة أنّها كانت تمثّل 85 من التونسيين في تلك الفترة. وقيمة هذا المنجز الأكاديمي تكمن أساسا في الردّ على الفكرة الرائجة في الكثير من الكتابات والقائلة بتدمير الاستعمار الفرنسي القبائل التونسية ذلك أنّ الدكتور محمد الحمّاص واستنادًا للوثائق والمراجع أبرز التغييرات التي أدخلتها السلطات الاستعمارية في برامجها العقارية تحت وطأة صمود القبائل وأُجبرت سنة 1935 على الاعتراف بملكية الأراضي للقبائل كافة كما أبرز تراجع السلط الفرنسية أمام قبائل الجنوب سنة 1918 وتوقفها سنة 1935 نهائيا عن عملية الاستحواذ على الأراضي وقد أفاض الدكتور محمد الحمّاص في متون فصول كتابه الستة في التحليل والاستنتاج وعزّز جملة استنتاجاته بالأرقام والإحصائيات والكشوف كما قدّم للقرّاء جملة من الوثائق النادرة تمثّلت في تقارير ضبّاط فرنسيين ورسائل قادة عسكريين ومحاضر جلسات ليخلص بالأخير إلى أن تمكّن الاستعمار الفرنسي من تدمير القبائل التونسية سياسيا واداريّا واقتصاديا كان نسبيّا ذلك أنّ الذهنية القبلية ظلّت درعا واقيا للشعب التونسي طيلة وجود الاستعمار الفرنسي في أرض تونس وهذه الحقيقية التي توصّل إليها الدكتور محمد الحمّاص تؤ غكّد أنّ للقبائل أهمية قصوى لما لها من ثقل عددي وثقافي واقتصادي وبدون الخوض في الوقوف على دورها التاريخي يظلّ فهم تاريخ تونس على مدى العصور مبتورًا.