بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبو يعرب المرزوقي والاجهاز على العقل
في النزاع بين الفلاسفة والمؤمنين :
نشر في الشعب يوم 27 - 10 - 2007

الفيلسوف يترك المؤمنين يتنازعون في ما بينهم ولا تَعنيه صراعاتهم بل هي، بالنسبة إليه، شاهد واضح على فساد تعاليمهم؛ لا يمكن للفيلسوف أن يفضّل ولو واحدة منها على الأخرى، ومِن وجهة نظر عقلانية، الكلّ في ضلال والمعتقدات الدينية كافّة لا تستحقّ حتى عناء التمعّن أو تعب الدّحض. الفيلسوف، إن وَلَج في تلك النزاعات، فإنه يلج لا من جهة الفصل بين الحقّ والباطل، الصادق والكاذب، وإنما ليفُكّ ادعاءات المؤمنين ويَبسط تناقضاتهم وعجرفتهم. إنّ مشهد الصراعات التي يخوضها أصحاب الدين فيما بينهم تُدَعِّم موقفه مِن أنّ عليه أن يَتشبّث بنهجه وأن يتمسّك بمبادئه العقلانية ويعظّ عليها بالنواجذ، وقد تُثير فيه تلك المَشاهد المُزرية نوعا من السُّخرية والضّحك الجدّيّين لأنه هو الوحيد الذي يَعلم بُطلان تعاليم أولئك الناس وأنّ صرخاتهم المتعالية ليست إلاّ عويلا.
وأتمنّى أن يسمح لي المؤمنون بهذه الدّعابة، على الرغم من أني واثق من أنهم لن يستسيغوها بسهولة، ذلك لأن مبدأهم في معاملة الخلق هو مبدأ حربي:» مَن ليس معي فهو ضدّي»، حتى وإن كان خصمهم عالما جَليلا أو فيلسوفا عبقريّا: حرّيّة التفكير لا معنى لها، والوَلاء الإيماني أهمّ عندهم من الولاء العقلاني، وعلى أساس هذا المبدأ يجب التحرّز منهم واتخاذ الحيطة، لأنّه لا يمكن أبدا الثقة بهم وبما يكنّونه بين جنباتهم. وليس من المستبعد أن ينسى أصحاب الدين نزاعاتهم ويعلّقوا ظرفيا خلافاتهم العقائدية كي يتحالفوا ضدّ أعدائهم الموحَّدين، أعني الفلاسفة والمثقفين الأحرار.
وكثير من المفكرين الإسلاميين الذين كتبوا للتنديد بأقوال راتسينغر، هم في حقيقة الأمر يتبنّون أطروحاته ضمنيا، أو صراحة. مثل المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي، الذي أعلى من شأن الإرادة الإلهية، وغلّب الاعتباط على التنظيم والحكمة، وقال بأن الإنسان لا يستطيع أن يعرف شيئا، وزعم، كما زعم ابن حزم، أن العقل الإنساني هو طارئ وليس بحاكم أو مقنن.ولفعل ذلك، فقد أجهز على المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه التفكير العلمي، أعني مبدأ السببية، كما فعل الغزالي وفرق الأشاعرة من المتكلمين المسلمين. وذلك قصد إثبات المعجزات والخوارق والاتفاقية في مجرى الظواهر الطّبيعية. لم يعمل المفكر التونسي على كبح مسار المعرفة الإنسانية وتطلعاتها النظرية فحسب، بل إنه عمد على الإجهاز على العقل وإيقافه عند حدّ لا يستطيع تجاوزه، نظرا لعجزه البنيوي وقصوره الذاتي على استكناه حقائق الأشياء في ذاتها.
في عالم مخلوق من طرف إرادة حرة ليس هناك فرق بين الواجب والممكن:» إذا كان وجود الممكنات (الموجودات و الظواهر الطّبيعية) منسوبا إلى المُوجِد (الله) فمعنى ذلك أنّ حصول الذات المُحدَثة (الموجودات) ما كان ليحدُث إلاّ بفعل الذات المُحدِثة (الله) ومِن ثمّ فلا يمكن أن يكون بين الواقع من الممكن والواجب أيّ بون ممّا يقتضي أن تكون ماهيته المحدثة على العدم (1) هذا تعبير صريح، نوعا ما، عن مبدإ الخلق من عدم الذي تختص به الأديان؛ فكل الموجودات نزلت إلى درجة الممكنات حتى بعد وجودها الفعلي. فهي كائنات محدثة على العدم وإتيانها إلى الوجود لا يضفي عليها أية كثافة أنطولوجية أو استقرار وجودي. ثمّ يستمر الكاتب، حاكيا التقسيم السينوي للوجود بين واجب بذاته، وممكن بذاته واجب بغيره، قائلا:» الوجوب بالغير يقتضي عدم وجود أدنى فاعلية موجبة للذات المُوجَدة، حتى ننسب كل فاعلية إلى الذات المُوجِدة. إن الحصول، بما هو غير عائد إلى ذات الحاصل، هو إذًا ما للإرادة الموجِدة من القدرة التي تبلغ ذروتها في تأييس اللّيس» (2). لكن هذا الطرح السينوي غير كاف لأنه لا يؤسس لما يدعوه الكاتب ب»القادرية المطلقة لله»، ذلك لأن :» المقدور، إذا كان له من ذاته، قبل وجوده، كونه ما هو، وإن حصرنا ذلك في كونه السلبي، يصبح عطالة أجنبية تَحُدّ من حرّية الإرادة الموجِدة، لأنها لا تبقى حرة في إيجاد ما تريد كما تريد، إذ إن كون الذوات لها ماهية يمنع الخالقية من جعل المخلوقية تعدو الوجود إلى الماهية فتكون الماهية غير مخلوقة ومن ثم فهي قديمة... وذلك سرّ رفض الأشعرية المتناقض أعني كون الذوات لا يمكن لفعل الإيجاد الإلهي أن يعدوها يجعل المخلوقية محصورة في حصول الممكن و ليس في كونه هو ما هو فتصبح حرّية الإله مشروطة له أن يخلق و ألاّ يخلق».
ليس من الإجحاف القول بأن الكاتب يطبّق، في سبيل إلهه الغيور على حرّيته المطلقة، مبدأ»الكلّ أو لا شيء». فعلا، إذا ترجمنا كلامه إلى لغة مبسّطة يصبح معناه واضحا: نظرية ابن سينا، في الواجب والممكن، وآراء بعض متكلّمي المعتزلة الذين قالوا بالخلق ولكنهم قيدوا الفعل الإلهي بمبدإ أن المعدوم شيء، أي أن المخلوقات ليست في ذاتها عدما محضا وذلك لتفادي الوقوع في محالات الخلق من العدم، ليست كافية أبدا ولا ترضي الذهنية اللاهوتية لأنها تترك شيئا فاضلا وإضافيا ليس في مقدور الإله تجاوزه، أي الماهيات الموجودة بالقوّة، أو على العدم.
ولتفادي الحدّ من حرية الإله اللاعقلاني، فهو يتبنّى موقفا أكثر جذرية، يذكرنا بالموقف الذي عابه راتسينغر على الدين الإسلامي، أعني اعتباطية الإرادة الإلهية، وإخراجها عن أي معقولية. وهذا الموقف أفضي به إلى حذف تلك «التقييدات الأجنبية» وإدخالها في حيّز ما أسماه بالذوات الثابتة في العدم. الغاية، كما قلتُ، هي إطلاق العنان للإرادة الإلهية الخالقة كي تفعل ما تريد، كيف ومتى وأين أرادت، وذلك دون عقل أو قيد أو حتى شرط الإلزام الشخصي. هكذا إذن تستوي هيمنة الله على الكون، ويعود كلّ شيء إلى نصابه.
لكن الرجل لا يكتفي بهذا القدر، إذ أن الاعتباطية الإلهية لكي تستقيم وتتجذّر في الوجود، يجب استكمالها بعنصر آخر، يبدو أنه هو الأهمّ، أعني القضاء على العقلانية وشروطها المعرفية، والقيام بغزو قلعة العلم (الكلمة من الكاتب ص 57 هامش 19 من المرجع أعلاه)، لافتكاك أذخر ما تمتلكه ألا وهو مفهوم الحقيقة كقيمة مثالية عليا حيث ينطبق ما في الذهن مع ما يحدث في الواقع.
فعلا، ففي نظره، يبدو أن المسك بحقيقة الأشياء في المجال العلمي والطريق إلى التعرّف على قيم أخلاقية ثابتة وموجهة للفعل البشري في المجال الأخلاقي، مسدود من الأساس. فمجرى الطبيعة وكل ما يحدث في الكون ليس إلاّ وليد الخلق الإلهي الحرّ الاعتباطي، أي على شاكلة التشريع التسلّطي، الذي سمّاه «إنشاءات ذرائعية حرّة» وبالتالي فإنّ كل الموجودات الطبيعية والمعايير العلمية والقيم الأخلاقية تغدو مستندة « إلى الإرادة الإلهية المبدعة بفعل «كن» (القاضي قياسا على فعل كن المقدّر) الذي هو فعل سياسي خالص بدالّة (التشريع) و سياسي تطبيقي بمدلوله (الشرع المحدّد القابل للبداء والنّسخ) (3).
هذه هي الركيزة اللاهوتية الوحيدة المعترف بها، أي إرادة الإله الغير مستقرّة والتي يخوّل لها، بكلّ حرّية مطلقة، البدء والنسخ. هذا الإله الذي يلعب النّرد بمخلوقاته والذي ينشئ ويفسخ الخلق كما يشتهي ويريد دون أدنى قانون أو معقولية، أقول هذا الصنف من الآلهة، الذي قال راتسينغر بأنه يصوّر الإله الإسلامي على حقيقته، هو العدوّ الأكبر للممارسة النظرية العلمية. فعلا، ما الضامن للعلماء من أنّ ما اكتشفوه من قوانين طبيعية، ليست إلاّ لحظة من لحظات النزوة الإلهية الغير مستقرة والمتغيرة إلى ما لا نهاية؟ ومَن مِن العلماء سيتكلف عناء الإقدام على مشروع نظري مُضنٍ وشاق، إن كان يعلم مسبقا أن عمله سيبوء حتما بالفشل والخسارة؟
العقل النظري والفلسفة والعلوم وإرادة الحقيقة والرغبة الصادقة في اكتشاف قوانين الطبيعة، والمنطق والقيم الجمالية والأخلاقية، وبالجملة كل ما يُعتبر حافزا ومحرّكا فعليا لملكة حبّ الإطلاع واستكناه حقائق الأشياء ستبدو حسب هذا الطّرح وكأنها سراب يحسبه الظمآن ماء. وما يدعّم موقف الكاتب هذا، نصوص ابن تيمية وابن خلدون:حيث يقول الأوّل، في المقدمة، وذلك في انسياق تامّ مع نهج اللاهوت اللاعقلاني الناكر للسببية وللطبائع:» وأيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول، لأنها إنما يوقف عليها بالعادة. وقضية الاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر وحقيقة التأثير وكيفيته مجهولة(4)». أما النص الثاني لابن تيمية، من كتاب الردّ على المنطقيين، فيقدّم له الكاتب بهذه العبارات:» وإذًا فالحدّ من الضرورة في علم الطبيعي، ومن الاختيار في علم الإنساني هو الذي وضع المفهوم الوسط الذي يجعلهما من طبيعة واحدة هي طبيعة العاديّات كما حدّدها ابن تيمية» وبالجملة الأمور العاديّة سواء كان سبب العادة إرادة نفسية (موضوع العلوم العملية) أو قوّة طبيعية (موضوع العلوم النظرية) فالعلم بكونها كلّيّة (استقرائيا) هو من التجريبات أو الحدسيّات إن جُعلت نوعا آخر. (و) حتى العلم بمعاني اللغات هو من الحدسيّات(5) وعلى أساس هذا الاعتباط الشامل الذي يلفّ الطبيعة وعلوم الإنسان العملية والنظرية، فإن الكاتب يتبنى موقف ابن تيمية الفقيه الذي جعل من جملة العلوم كاشفة فقط عن عادة الأشياء وليس الأشياء في ذاتها: «فعامّة ما عند الفلاسفة، بل وسائر العقلاء من العلوم الكلّيّة بأحوال الموجودات هو من العلم بعادة ذلك الموجود وهو ما يسمونه الحدسيات. وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية والفلكية كعلم الهيأة، فهو من هذا القسم من المجرّبات إن كان علما»(6). هذه الأقوال يعتبرها المرزوقي لبّ خطاب «التنوير والتثوير»(7) العلمي والعملي الذي أحدثاه ابن تيمية وابن خلدون. لقد دشنا عهدا جديدا يقطع مع العوائق الإبستيمولوجية التي تسبّب فيها فلاسفة الإسلام في اعتمادهم على فلسفة أفلاطون وأرسطو الواقعيتين، وعلى مبدأ العقلانية والسببية. وهذه الحقيقة غابت على المثقفين العرب المعاصرين الذين سقطوا هم الآخرون في نفس المَصيدة التي حيكت من قبل الفلسفة والكلام الاعتزالي.
إننا بكل حزم نخالفه الرأي ونعتبر هذه النصوص، عدا أكثر ما تحتويه مؤلفات ابن تيمية، دليل على الظلامية، وهي « تُنَظّر» لا لعلم جديد وثوري بل لاستقالة العقل وجحد الطبيعة وقوانينها وتكبيل الإنسان بالجهل والتعصب، وجعله يرزح تحت وطأة سلطة إلهية سياسية (مثيلة لسياسة السلطان المتجبّر) بكل ما تحمله من اعتباطية واتفاقية فظة مخزية للعقل وللحريّة. الكاتب يرسم لنا صورة العالم وفعاليته النظرية الاستكشافية بشكل يضعف من مدى مصداقيته في تقنين ظواهر الطبيعة ويضيّق عليه الخناق في تطلعاته النظرية. فالنشاط العلمي، حسب زعمه، هو من مجال الاعتباط الإنساني، الذي يحاكي الاعتباط الإلهي، وبالتالي فهو ليس إلاّ «اقتصار فاعلية الذات العالمة والعاملة على إبداع معلومها ومعمولها بما هو معلوم ومعمول مضافان إلى علم الإنسان وعمله، ولا تتعدّاهما إلى الشيء الذي يتعلّق به العلم والعمل بما هو في ذاته « (8).
وهذا المنظور اللاهوتي للنشاط العلمي هو غاية العالم في مجهوده النظري وأقصى ما يمكن أن يطمح إليه: فمن جهة، هناك الشيء في ذاته وهو خارج عن سلطة الإنسان المعرفية والعملية، وفي الجهة المقابلة يقبع الإنسان العارف، المقذوف به في هذا الكون الغامض، في حيرة لا يدري هل أن ما يقوله أو يحكم به في تطابق مع الشيء الموجود أمامه أم أن نشاطه العقلي والعلمي ليس إلاّ أضغاث أحلام. كلّ ما يجب أن يتحقق منه العالم هو شيء واحد، أعني ما أسماه الكاتب: «مضمون الاستثناء، إلاّ ما شاء الله «(9).
حقا إنه كسب هزيل. كسب هزيل جدّا هذا الذي ينتظر رجل العلم في جهده المضني للبحث عن حقيقة الأشياء. أظن أن لا أحد من العلماء يرضى بأن يكون في وضع هذا العالم «الاسمي»(Nominaliste) الطيّب الخاطر والذي هو، من شدّة تواضعه ونكرانه لذاته ولعلمه، مستعدّ للتنازل عن صلاحياته المعرفية والاكتفاء بهذه الحصيلة العجفاء، أعني «مضمون الاستثناء»، أي تقريبا لا شيء.
المرزوقي يتباهى بأطروحاته هذه وبالنتائج التي توصّل إليها (يقول إنها عجيبة) والتي مكثت لمدّة قرون في كتب ابن خلدون وابن تيمية ولم يفهمها أو يستغلّها أحد (عدا بعض رجال الإصلاح) وبموجبها تمكّن هو الآن بعد إنقاذها من النسيان والإتلاف من تفعيلها للغزو والإطاحة، نهائيا، بمعاقل العقل والفلسفة. إنها الفرصة لتجديد روح الدين وتدعيم أسس الكلام الخلدوني التيمي، الذي طُرد تعسفا من طرف فلاسفتنا الملاحدة، الزنادقة والسفسطائيين، قديما أو حديثا. العلم الإسمي البديل الذي استحدثه ابن تيمية على أنقاض الواقعية الفلسفية «التي ينسب إليها ابن تيمية علوم الفلاسفة والمتصوّفة والمتكلّمة بما هي أساس الزندقة والسفسطة» (10)، مكّن أخيرا من التوفيق بين العقل والإيمان، بين العلم التجريبي والنقل الغيبي، أي حسب عبارات الكاتب جعل «التعايش بين الدين والعلم أمرا ممكنا:»إذ أن الأول أساسه التسليم بالأصول لعصمة المخبر، والثاني أساسه وضع الأصول الاجتهادية للتعامل مع التجربة وصياغتها صياغة علمية نسبية، لا تدّعي الإطلاق، فلا تصطدم بالدين»(11).
القول بوجود طبائع ثابتة والأخذ بمبدأ السببية، ورفض اعتبار القوانين الطبيعية مجرد إسقاطات اعتباطية للإرادة الإنسانية أو الإلهية هي من بين المساوئ الكبرى التي أدخلها فلاسفتنا، ولذلك فإن تصحيح هذا الزيغ عن طريق تدخّل الدين في مجال الفكر هو أمر مشروع، وضروري للنهضة العربية المستقبلة. (12) وهذه أقوال الكاتب: « إذا كانت الطبائع طبائعا فلا معنى لحاجتها إلى فاعل أجنبي ينقلها من حال إلى حال وإذًا فهذا التدخل (تدخل الدين في الفلسفة) حدّ من طبيعة الطبائع وإدخال عدم الضرورة في التسلسل الضروري للطبائع. و لمّا كان هذا هو معنى الفعل الإلهي في التصور الدّيني، صار مدلوله العميق هو غزو الفكر الديني لحرية الفعل الإلهي في عالم الطبائع للفكر الفلسفي الضرورة المسيطرة على عالم الطبائع، وإذا أصبح للفعل الإلهي الحرّ دور في سلسلة الطبائع، صار حكمها حكم الشرائع، إذ هي خرجت عن الضرورة الطبيعية إلى الاختيار التشريعي». أترك للقارئ الحكم النهائي فيما إذا كانت هذه الأطروحات تتنافى مع ما قاله راتسينغر ضدّ الإسلام، وهل أنها تحتوي على مشروع علمي تنويري أم لا.
الهوامش:
1 أبو يعرب المرزوقي، إصلاح العقل في الفلسفة العربية. من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى اسمية ابن تيمية وابن خلدون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ,1996 ص، .55
2 أبو يعرب المرزوقي، ن.م
3 ن.م، ص 232
4 ن.م، ص، 241 هامش، .71
5 ن. م، ص، .241
6 ن. م، ن.ص.
7 ن. م، ص، .286
8 ن.م، ص 75
9 ن.م، ص 78
10 ن.م، ص، .188
11 ن. م، ص، 188 .189
12 في معرض اعتراضه على محاضرة البابا، يؤكد المرزوقي منحاه الإرادوي زاعما أن القول باعتباطية القوانين الطبيعية وردها إلى إرادة عمياء لا يتنافى مع العقلانية: « لماذا لا يفهم (البابا) أن المؤمن الصادق لا ينفي العقل عن الله عندما يؤمن بتعاليه عن مقولات العقل الإنساني بل يميز بين علمه المطلق وعلمنا النسبي فيرى قدرته وإرادته فوق معقوليتنا التي نتصور قوانينها قوانين الوجود؟ لماذا لا يفهم أن الإيمان الصادق ليس هو إلا التسليم بأن قوانين الوجود من اختيار الله الحر رغم قابلية التعامل معها لمنطق الرياضيات المضطر؟». هذا المقال بعنوان «الخلل المنهجي في محاضرة البابا» نشر في الموقع الإلكتروني(http://www.almultaka.net) بتاريخ 6 نوفمبر .2006

أستاذ الفلسفة بمعهد
الدراسات العربية والإسلامية. روما


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.