لم أر صديقي كبير المهندسين، كبير الباحثين في مجال الذّكاء الاصطناعي منذ مدّة. لذلك حرصت في الأيّام القليلة الماضية على البحث عنه والسّؤال عن أحواله خاصّة بمناسبة عيد الفطر المبارك. كان تلميذا جيّدا، وطالبا متفوّقًا، نجح نجاحا بارزا أهّله للحصول على شتّى أنواع المنح والمساعدات، من تونس، ومن دول صديقة، حتّى يتمّ دراسته في أرقى الجامعات وأكثر المدارس العليا اختصاصا. طبعا نجح، وحصّل من الشهائد ما لا عدَّ له ولا حصر، بحيث نستطيع أن نقول أنّه «باك زايد 12» أو هكذا يبدو لي لأنّه، من فرط علمه وتواضعه، يرفض أن يقدّم نفسه كمهندس ذكاء، أو دكتور في الهندسة أو دكتور دولة أو أستاذ محاضر أو غيره كما يرفض أن يتحدّث عن المناصب التي أسندت له أو التي يشغلها أو التشريفات الكثيرة التي يحصل عليها في تونس وخارجها وعن التقدير العظيم الذي يلقاه في أشهر الجامعات وأرقى مخابر البحث العلمي في العالم. عندما يغادر مخبره أو مكتبه أو كلّيته، يتخلّى حتّى عن بدلته الأنيقة وسيّارته الفاخرة، ينزل إلى الأسواق، يمشي وسط النّاس، يجلس في المقاهي، يتجوّل في الأحياء الشعبيّة، يتحدّث إلى البائعين، يسأل عمّا بلغهم من معلومات حول الاختراع الفلاني وعن حاجتهم إلى اكتشاف ما في مجال ما، يقدّم المساعدة والاستشارة، يوجّه، يتدخّل بما استطاع، يُقبل بنَهَمٍ على أكل الخبز «العربي» والدجاج «العربي» و «الهريسة» التونسية وما شابهها من المأكولات، يجمع التّحف النّادرة وحتّى بعض الخزفيات التي يعثر عليها في الأسواق الشعبيّة.هو صاحب نكتة، ظريف، يحفظ شعرًا كثيرا، مقبل على الحياة، مؤمن بالعطاء. لا يكره أحدًا، لا يرفض شيئا معيّنا، فقط لا يحتمل كرة القدم ولا أغاني المزود. صداقة من نوع خاص تربطه بوالده، كلاهما شديد الزّهو والفخر بالآخر، يتكاملان، يتبادلان الآراء والأفكار، الأوّل صاحب تجربة وخبرة، والثّاني صاحب علم ومعرفة. يوم التقيته الثلاثاء الماضي، لم أعرفه لولا أنّه ناداني، فقد كان يضع على عينيه نظّارات سوداء، وعلى رأسه قبّعة سوداء، وعلى كتفيه جمّازة سوداء، وتحتها قميص أسود. لمّا اقترب منّي، لم يستطع الكلام بل لاحظت أنّه يجهد نفسه لإخفاء دمعة نازلة وإخماد شهقة على وشك الانطلاق. لكن لمّا سلّمت عليه محتضنا، انفجر الرّجل باكيا، متأوّها، متألّما، متوجّعا، متحسّرًا. لمّا هدأ، وانطلق لسانه أخيرا، عرفت منه أنّه فقد أعزّ أصدقائه، والده الذي قتل في معركة عائلية من أجل لا تزيد مساحتها عن بضع مئات من الأمتار المربّعة!