عندما تحصل الكاتب «أورهان باموق» يوم الأحد 23 اكتوبر 2005 على جائزة أدبيّة كبرى يمنحها من يعرف قيمة الادب اي اصحاب المكتبات القى كلمة نشرتها جريدة لوموند الفرنسية في عددها الصادر يوم 31 أكتوبر 2005 وهذا نصها: «أصبحت الامبراطورية العثمانية التي بدأت تشعر بالهوة الكبيرة الفاصلة بينها وبين الغرب المتطوّر والناشط، اصبحت تلك الامبراطورية تجمع الهزيمة تلو الاخرى امام جيوش اوروبا وتشعر بان قوتها تتآكل شيئا فشيئا. وقتئذ برزت مجموعة من الاشخاص اطلقوا على أنفسهم «الأتراك الشباب» وساروا سير النخب السابقة، بما فيها السلاطين، آخر السلاطين الأتراك، في انبهارهم بتقدّم الغرب وعلوّة حتى يستمدّوا منه الافكار لبعث برنامجهم الاصلاحي. ويبقى نفس المنطق سائرا في قلب الجمهورية التركية الحديثة مع «الاستغراب» الذي بعثه مصطفى كمال اتاتورك. ويرتكز هذا المنطق على فكرة ثلاثية تجاه ضعفها وفقرها وهذه الفكرة هي: ثقافة بالية، وتقاليدها القديمة ومختلف الطرق التي نظمت بها الدين اجتماعيا. وانطلاقا من جذوري التي تنتمي الى أسرة ميّالة للغرب، من الطبقة المتوسطة الاسطنبولية اعترف أني أيضا أميل في بعض الاحيان الى هذه الافكار بهذا التحليل فكرة مبنيّة على النوايا الحسنة لكنها مبسطة وساذجة ومستنقصة للذّات. المنادون لتغريب تركيا واتباع الغرب، يحلمون بادخال تغيرات على البلاد وثقافتها واثرائها بتقليد الغرب. وهدفهم هو جعل تركيا اكثر ثراء، اكثر سعادة واكثر قوّة، وهكذا يجدون انفسهم في موقع كره الاخر والاجنبي وفي مستنقع قومية متشدّدة ولم ينج لا الشباب الاتراك ولا المنادين بتقليد الغرب من هذا التقوقع. وميلهم الى الغرب يحثّهم بطريقة موازية على اتخاذ موقع نقدي من بعض الخطوط الهامة الخاصة بالبلاد وثقافته. وحتى وان اختلفوا في الاسلوب، انهم يميلون، كما يميل الملاحظون الغربيون الى اعتبار ان ثقافتهم منقوصة ومشلولة وبلا اي اهمية تذكر La hante او الخزي وهذا يولّد شعورا عميقا وغامضا الا وهو: الخجل واعتقد ان هذا الشعور نفسه يرشح من بعض المواقف التي اثارتها رواياتي والصورة التي كونها البعض حول علاقتي الخاصة بالغرب. وفي تركيا عندما تطرح مسألة ازدواجية شرق / غرب، وعندما نناقش مسألة الحداثة / الاصالة (وهذا هو بيت القصيد) وعندما نتجادل حول علاقة بلداننا بالغرب يكون الشعور بالخجل غير بعيد اطلاقا وكي نفهم الخجل اضطرّ دائما ان اقوم بربطه مع ضدّه الكبرياء (1). كلّنا يعلم انّ الكبرياء اذا استفحل واشتدّ وعندما يتصرف الناس بكثير من الكبرياء يصبحون على مقربة انملة من الشعور بالخزي والاذلال والمهانة وعندما يشعر اي انسان بالخزي عميقا يطفح على السطح الكبرياء القومي وهذه هي المادة الخاصة الاولى التي استمد منها رواياتي. الشعور بالخزي والخجل، الكبرياء، الغضب، والشعور بالخيبة والفشل لانني انتمي الى امة تقرع باب اوروبا، اعلم جيدا ان هذين الشعورين أعني الخزي، الكبرياء، يشتعلان فجأة داخل كل فرد وفي المجتمع وتنتشر بسرعة وبدون حواجز. ولذلك السبب أجدني مجبرا على طرح هذا الخزي، هذا الشعور البشري الذي نتهامسه، كما قرأته في روايات «دسنتيوفسكي». وقد علمتني الرواية وفنّ السرد: عندما نشترك جميعا بالشعور بالخزي الدفين عندها نقدر على التحرر منه. لكن في ذات الوقت الذي تتم فيه عملية التحرّرافهم كم هو معقد ان تكون ممثلا كل الحشرجات الاخلاقية المتأتية من ان تتحدث بأسم الاخرين. والمهمة شاقة خاصة بالنسبة لروائي يعذّبه ذلك الشعور غير المستقر الذي اشرت إليه وقد يبدو هذا العالم الروائي الذي هو مخيال مستقل بذاته مغالطا خاصة اذا كان هذا العالم يتحرك فيه روائيا مرتابا ومتشككا، حساسا ويركب كبريائه القومي. وعندما نسكت عن الواقع نعتقد ونأمل ان الخزي سيبقى دفينا ولن يطف على السطح. لكن عندما يشغل روائيّ مخياله وخياله لكي يغيّر ذلك الواقع فهو يخلق واقعا موازيا يطالب الاعتراف به. عندما يحاول الرّوائي جاهدا اللعب بالقواعد الاجتماعية الثابتة ولما يزيل الطبقة اللمّاعة التي تغطي الحياة ليكشف هندستها الخفيّة، وفيما يحاول الروائي اختراق العالم لاكتشافه وكشفه في خفاياه، بحبّ اطلاع الأطفال، وذلك تحت سطوة العواطف الجامحة التي لا يقدر على كبحها، لما يقوم بكل ذلك يبدو وجليا وحتميا انه سيخلق لدى اقرابه وأترابه وأصدقائه ومواطني بلده الشعور بالقلق والانزعاج والضجر، لكنه انزعاج محبوب ومنتظر لاننا لا نفهم العالم الذي نعيش في صلبه الا بقراءة الروايات والحكايات والخرافات وعن طريق العالم الروائي والسرد الروائي نلج الى عالم الحقائق المخفية والتي يخفيها ويواريها علينا الاسرة والتعليم والمجتمع باسره وفن الرواية يمكننامن التساءل على من نحن حقيقة. وعندما افكر في كل هؤلاء القراء عندما اطلب منهم تمكيني استعمال خيالهم حتى يتموضعون في مكان شخص اخر وعندما افجّر عوالمهم امام اعينهم وعندما اتجول معهم في شوارعهم في احيائهم وحاراتهم ومدنهم اجد نفسي افكر حقا في مجتمع في مجموعة بشرية في أمّة بأكملها وهي تحلق نفسها بقدرة خيالها ومخيالها. وان المجتمعات الحديثة، والشعوب قاطبة، والامم المختلفة يقومون بالتفكير الصحيح في كنه ذواتها بالقراءة. والرواية تمكنهم بالتحاور حول ذواتهم وعندما نختطف كتاب يقع بين ايدينا من اجل الترفيه والترويح على النفس والهروب من الرتابة اليومية، أعتقد اننا نقوم بذلك لكي نفجّر في ذاكرتنا ودون وعي، المجموعة والامة، والمجتمع الذي ننتمي اليها. وكل ذلك يفسّر لماذا لا تعبّر الرواية على افراح شعب ما ونخوته، وانما التعبير على غضب ذلك الشعب وضعفه وخزيه. ولان الروائي يذكّر فعلا وبدقة القارئ اسباب خزيه وكبريائه والانانية التي يتموضعون بها في هذا العلم فهو يكون سبب اثارة غضب القراء. وماهو اكبر من الخزي الذي نشعر به عندما نشاهد هذه الطفرات من عدم التسامح وحرق الكتب وملاحقة الروائيين وتعذيبهم. أعترف ان مسألة «أوروبا» هي مسألة غاية في الحساسية ومن الرهافة والدقة بالنسبة لكل مواطن تركي. نحن اليوم واقفون على ابوابكم أيها الاوروبيون نطلب منكم ان تمكنونا الدخول ملؤنا الامل والنوايا الطبية لكنها محتارون ومتأزمون عندما نتذكر احتمال رفضنا الدخول، وفكرة الاقصاء. وهذا شعورا تقاسمه مع اهل بلدي شعورا قريب من ذلك «الخزي الصامت» الذي تحدثت عنه. تركيا تقرع في بروكسل باب اوروبا وسوف ننتظر طويلا وطويلا تقدم لنا اوروبا الوعود ثم تنسى او تتناسى لكي تشّدد من شروطها. والادهى هو أنه في نفس الوقت الذي تدرس في المنظمات الرسمية الاوروبية طريقة قبول عضوية تركيا يتفاقم الشعور بالكراهية لتركيا في عدّة انحاء من أوروبا وخاصة على لسان بعض السياسيين. وفي مدّة الانتخابات الأخيرة حول إمكانية دخول أو تركيا أوروبا، بدى لي أن استراتيجيا رفض تركيا والاتراك ومعاداتهم تذكرني بمواقف بعض الشخصيات العامة في بلدنا. انه لمن الطبيعي الاشارة الى الهنات والنواقص في عمل الدولة التركية في ميدان الديمقراطية ونشير بالبنان الى النواقص الاقتصادية، لكن لا يبرّر ذلك بالهجوم على الثقافة التركية باكملها او نستغل ذلك الهجوم على الجالية التركية في ألمانيا مثلا وهي جالية تعيش وضعا هشا وحياة صعبة. وعندما نهاجم تلك الجالية سيشعر اتراك تركيا انهم سيبقون السنون الطوال على أعتاب أوروبا، يدقون الباب، ولا من مجيب ويشعرون انهم غير مرغوب فيهم بأوروبا ومن عجائب الصدف الاثمة في هذه الحكاية وهو ان استعمال القومية المعادية لتركيا في اوروبا تدعو الناس في تركيا الى اتخاذ مواقف اكثر تشددا قومية وتقوقعا. وان المؤمنون بالوحدة الاوروبية عليهم الاختيار بين خيارين فقط السلم او القومية المتشددة اعتقد ان الحلّ الامثل للسلام هو في قلب الوحدة الاوروبية وان لا تزاح مكانة تركيا لتدعيم ذلك السلام. وها نحن في مفترق الطرق وامام خيارين: اما قوة الخيال لدى الروائي او القومية المتشددة التي تسمح بحرق الكتب في السنين الماضية. طرحت العديد من المرات امكانية دخول تركيا الى اوروبا، وجوبهت بالاستهزاء والسخرية والتشكيك انّ اهم ما ستقدّمه تركيا لاوروبا هو السّلم. هذا السلام المعبّر على الرغبة في تأسيس امن وقوة ينبتان من رغبة في مفهوم لاوروبا ينبع من بلد مسلم وتقبل هذه الرغبة السلمية. انّ الروائيين الأوروبيين الذي قرأتهم وانا طفل صغير لا يعرّفون اوروبا بالمسيحية لكن بقيمة الانسان وان كانت روايتهم تشدّني وتؤثر فيّ لانهم يقدمون اوروبا من خلال ابطال يناضلون من اجل حرّيتهم، ويعبّرون على عبقريتهم ومواهبهم وتجسيد احلامهم. انّ اوروبا لم تفرض نفسها على العالم غير الغربي الا عن طريق المثل العليا التي عملت على تأسيسها، الحرية والمساواة والاخوة. وان كانت روح اوروبا هي ابنة التنوير والمساواة والديمقراطية وان كانت اوروبا تأمل ان تكون كيانا تأسس على السلام فإن تركيا لها مكانها في هذا المفهوم لاوروبا. وكما هو الامر اذا تشبثت تركيا باستعارة قوتها من الدين فإن اوروبا تعرف نفسها من خلال مسيحيتها الضيقة لا تفضي الا الى التقوقع على نفسها، منفصلة عن الواقع، متجهة نحو الماضي اكثر منها ان ترنو الى المستقبل. وامام شخص مثلي كبر وترعرع في وسط لا يبكي ، مثال للغرب، على الضفة الاروبية من مدينة اسطنبول لابدّ ان اعتبر ان من الواقعي الدخول والانتماء الى اوروبا. انا عشت دوما حضور مبارات نادي المفضل لكرة القدم، الفرباشي لاحد نوادي المندرجة في مجموعات كأس أوروبا لكرة القدم. ملايين الاتراك مثلي يعتقدون ان دخول تركيا الى المجموعة الاوروبية حتميا كما أنّ السلفيين والمحافظين والاسلاميين وممثليهم السياسيين يأملون رؤية تركيا داخل المجموعة الاوروبية، تركيا فعالة في مستقبل اوروبا، تحلم بذلك بتدعيم مستقبلها. وبعد قرون من الحروب والنزاعات يبدو هذا الموقف الحميمي حرّي بأن يؤخذ مأخذ الجدّ ولا يعامل باستخفاف وان رفض قطعي لدخول تركيا في اوروبا سوف يكون سببا في خيبة كبيرة لانني اذا كنت لا اتصور تركيا دون افاق اوروبية لا اتصور اوروبا دون افاق تركية.
(1) وأنا أبحث مع أحمد الحاذق العرف عن ترجمة La honte et l'orgaeil بعد استعراض كل مفردات القاموس وأنا اعيد قراءة «الطريق» لنجيب محفوظ وقعت على هذه الجملة «انتم يأخذكم الخجل والكبرياء» قالها بطل الرواية متوجها لكل الشعب المصري...