قُمْ للمعلّم وفّه التبجيلاَ كاد المعلّم أن يكون رسولا هذه الجملة الشعرية التي رسمت طريق أجيال متعاقبة من المتعلمين في علاقاتهم بمعلميهم هل مازالت اليوم محرارا لهذا النوع من العلاقات بين معلّم يرتقي دوره الى مرتبة القداسة بالنظر لما كان يضطلع به من مهام نبيلة وبين متعلّم يقدّر هذا الدور ويجلّ القائمين به؟ هل المعلم قد انحدر من علياء رسالته ام حقيقة العلم في عيون المتعلمين قد تبدّدت؟ مثار أسئلتنا هذه ومثلها كثير هو ما بتنا نلاحظه من انقلاب أدوار كلا الطرفين (المعلم والمتعلم) إذ غاب الرفق والحرص من جهة وغاب الاجلال من الجهة الاخرى لتحلّ محلّّهما اشياء اخرى!! توجهنا الى الاولياء والمربين بالسؤال التالي كيف تقيمون علاقة المعلم بالتلميذ اليوم؟ أجابنا عادل (تقني باحدى المؤسسات الاعلامية) والحرقة والألم يقطران من كلماته «إنها علاقة ابتزاز واستغلال فالمعلم اليوم يستغل حرص الاولياء على تفوق اولادهم من أجل ابتزازهم وتكريس الدروس الخصوصية كسبيل لا محيد عنه للتفوق. ابني متفوق في الدراسة يقول عادل ولكن اعداده في مادة الفرنسية متدهورة لانه لا يتابع دروس التقوية عند معلّمة الفرنسية في منزلها ولما ذهب عادل للمعلّمة للاستفسار أخبرته ان ابنه لا يتفاعل مع الدروس في القسم واكد عادل انه من الطبيعي ان يحدث هذا الامر لان الدروس التي تلقيها هذه المعلمة في القسم هي نفسها التي تعدّّها للتلاميذ في منزلها لذلك يرى ان تفوق التلاميذ الاخرين على ابنه يعتبر حيْفا فاستجاب مكرها لتسجيل ابنه لتلقي دروس عند هذه المعلمة التي لم تكتف بذلك بل قرنت ذلك بدروس اخرى يقدمها زوجها في اللغة العربية، فأي ابتزاز اكثر من هذا.. ولما احتج هذا المواطن الذي لا يتجاوز دخله 500 د رافضا هذا الببيع المشروط متعللا بان ابنه يمارس رياضة في توقيت الدروس الخصوصية في مادة العربية، حذّرته هذه المعلمة النبيهة ان دراسة ابنه اهمّ وانه امام خيار «هز الكلّ وإلاّ خلّي الكلّ» فهذه المعلّمة صاحبة المؤسسة العائلية في التعليم الخصوصي نبيهة في التجارة وهي كذلك تؤمن بقيم نبيلة كأهمية الدراسة المدفوعة الاجر كما تؤمن بلا جدوى الرياضة لانها لا تغذي العقل. صدمتنا حُرقة هذا الولي فغادرنا حسرته نحو وليّ آخر ربما نجد لديه ما كنّا نراه في معلّمينا سابقا من حرص على تعليمنا وتثقيفنا ببذل كل الجهد الممكن فقد كانت دروسنا في القسم تكفينا وتمدّنا بكل ما نحتاج إليه من أكسجين العلم فأنا أذكر ان معلم السنة الثانية كان يسكن في نفس حيّنا وكان عند خروجنا من الفصل يجمعنا حوله لنرافقه في الطريق وكان يقصّ علينا حكايات شائقة لا نشعر معها بطول المسافة فقد كان هذا المعلم يضيف الينا من وقته واهتمامه فيغذي خيالاتنا الصغيرةويشحنها بالاحلام. ميثاق شرف المعلم فاطمة ام لثلاثة ابناء اثنان بالجامعة وواحد تلميذ بالسنة الرابعة ابتدائي اجابتنا «إن الدروس الخصوصية قد غيّرت نظرتها للمعلم، فقد كانت تتصور سابقا ان مهنة المعلم من المهن السامية ذات القدسية كالطبيب والممرض... فهذه المهن يجب ان لا تدخل منطق رأسمال المال، تقول فاطمة لأنها في هذه الحالة ستفتّت هالة العلم من حولها، وظاهرة الدروس التي يقدّمها المعلمون في منازلهم ظاهرة مزعجة وتثير اكثر من سؤال: هل عدد الساعات التي اقرتها الوزارة للدراسة داخل الفصل غير كافية، هل المقررات صعبة لدرجة ان المعلم والتلميذ يحتاجان لساعات اخرى لفكّ طلاسمها. هل اصبحت الدروس الخصوصية عرفا جاريا او هي شرّ لابدّ منه؟ تقول فاطمة ان هذه الدروس لم تعد اختيارية كما كانت في السابق ولم تعد للتدارك ولم تعد ترفا، لقد جعل منها بعض المعلمين حتمية لنجاح التلميذ، وبعيدا عن اشاعة ارتباط الاعداد بمتابعة هذه الدروس فاننا بتنا نحتاج إلى ميثاق شرف لمهنة التعليم مثل عهد ايبقور الذي يقسم به الاطباء او إلى ميثاق شرف مهن اخرى، لان مستقبل اجيال في الميزان والوليّ مسؤول بشكل ما عن هذه الوضعيات الطارئة في علاقة المعلم بالتلميذ، مسؤول عندما يخضع للمساومة ومسؤول عندما يشتري تفوق ابنه بالمال فبعض التلاميذ كانوا من المتميزين في الابتدائي يجدون انفسهم خاليي الوفاض في الاعدادي فجارة فاطمة تحصلت ابنتها على معدل 7 من 20 في السنة السابعة اساسي بعد ان كانت متفوقة طيلة سنوات الابتدائي وبعض الاولياء يدفعون مثلا لمعلمي ابنائهم المرسمين بالسنة الرابعة ابتدائي مئات الدنانير من اجل تقويتهم للمناظرة لقد صار الامر هوسا عند بعض الاولياء. مجانية التعليم مبدأ مجانية التعليم مكفول في القوانين التونسية ولكن سلوك بعض المعلمين سيجعله في الميزان وعندما يجد الوليّ نفسه مضطرا لدفع مبالغ طائلة للمعلمين في المدارس الحكومية لقاء دروس خصوصية سيتفطن حتما ان عليه ان يقطع سبيل انزعاجه منذ البداية ويرسّم ابنه او ابنته في مدرسة خاصة ستكون الدروس حتما فيها اكثر جدّية وبهذا سنضرب بأيدينا مكسبا وطنيا استفادت منه اجيال واجيال ومازلنا نحتاج إليه للاجيال القادمة. فالتكالب وراء الدروس الخصوصية سيمسّ حتما من مصداقية المدارس الحكومية ويسم برامجها بالهشاشة ويقود المجموعة الوطنية بشكل لا واع نحو تزكية خوصصة التعليم فهلا تفطّن الوليّ! مسؤولية الولي سُعْدى معلّمة منذ سنوات طويلة، تنقلت بين مدارس كثيرة تقول ظاهرة الدروس الخصوصية موجودة ولكنها تختلف من منطقة الى اخرى ومن جهة الى جهة اخرى... فهي لا تدور بنفس النسق بين المناطق المصنّفة مناطق راقية وبين المناطق الاقلّ حظا كما ان الاسعار التي يطلبها المعلمون تخضع لنفس المنطق ولكن على الوليّ ان يكون يقظا لان مفتاح هذه الظاهرة التي قد تزعجه بيده وليست بيد الاخرين وان كان يشترك في نسج اطرافها المعلم والتلميذ والولي فبعض الاولياء هم من يطلبون بالحاح الدروس الخصوصية لابنائهم وهو يفعلون ذلك بتعلاّت كثيرة... اما لانهم لا يريدون تحمل مسؤولياتهم في متابعة دروس ابنائهم او لان وقتهم لا يسمح... وهناك فئة أخرى من الاولياء تريد التفوق لابنائها مهما كان الثمن حتى ولو كان المال.... ثم ان ضغط المناظرات المدرسية في مستوى السنة الرابعة ثم السنة السادسة قد بات واضحا اذ يبدو ان مدرسة الغد تقوم على ان البقاء للاكثر تميزا من التلاميذ... والاولياء امام هذه الحقيقة باتوا ملهوفين على شهائد الامتياز لابنائهم حتى وان كان التلميذ في حقيقة الامر لا يتلقى التكوين المعرفي والبيداغوجي اللازم.... وهذا نكتشفه عندما ينتقل التلميذ من مستوى دراسي الى آخر.... وعندما سألنا المربية «سُعدى» عن الدور الذي تضطلع به الوزارة في تنظيم هذه الظاهرة، اجابتنا ان الادارات الجهوية للتعليم تطلب تصريحا من المعلمين الذين يزاولون هذا النشاط في منازلهم وينصّ هذا التصريح على عدد التلاميذ ومستوياتهم واوقات تدريسهم ومكانها، كما انه يشدّد على ان يكون اي من التلاميذ الذين يتابعون الدروس الخصوصية من منظوري المعلم في نفس القسم بمعنى ان التلاميذ الذين يدرسون عند هذا المعلم في المدرسة في السنة الرابعة مثلا يجب ان لا يتابعوا الدروس الخصوصية لهذا المعلم حتى لا يخضعهم للابتزار او يمتعهم بامتيازات على حساب زملائهم من نفس القسم. هذا عن القانون ولكن هل يلتزم الولي بهذا تسأل السيدة «سُعدى» ثم تجيب بحسرة ان الاولياء هم من يلاحقون معلمي ابنائهم حتى يقدموا لهم الدروس الخصوصية بل اننا نراهم يلحون على ذلك وبعض المعلمين قد يضطرون احيانا وشدّدت السيدة «سُعدى» على كلمة احيانا الى اضافة بعض العلامات حرجا من الوليّ الذي ينتظر ان تكون اعداد ابنه حسنة لانه يتابع الدروس الخصوصية.. فالطرف القويّ اذن هو الوليّ، عادت هذه المعلمة لتكرر ولو امتنع الوليّ عن هذه الممارسات لارتدع المعلم. عديدة هي الاسباب التي باتت اليوم مسؤولة عن تغيير تلك العلاقة التي كانت سائدة بين المعلم والتلاميذ، تغير زمن القيم النبيلة وحلّ محلّه زمن رأس المال ولم يعد تشرّب المعارف هو هدف التلميذ كما لم يعد نبل الرسالة هو شعار المعلم.. تلميذ يبحث عن التفوق الذي به يستمرّ في سلم العلم ويختار ما يريد من الكليات والمعاهد العليا.. ومعلم يبحث علي ما يمكنه ان يعيش به حياة مستريحة في زمن غلاء المعيشة والاسعار الباهظة. وليّ بات يطلب تفوق ابنه مهما كان الثمن بحثا عن الوجاهة الاجتماعية ربما، او حرصا على مستقبل ابنه في ظل عنوان البقاء للأكثر تميّزا.... والنتيجة هي انخرام تلك العلاقة التي كانت سائدة بين المعلم والتلميذ اذ انقلبت الغايات وتمازجت مع غايات مستجدّة ربما ستكون نتائجها في العملية التربوية اخطر مما نتصوّر.