بمناسبة تقديم المجموعة القصصية الجديدة لمحمود بلعيد في نادي القصة، استفز النقاش في ذهني أسئلة عديدة حول قضايا الإبداع والواقع ومسألة التلقي... وسأنطلق من المناخ العام لهذه المجموعة المعنونة ب:»حب من نوع خاص»فهي قد تصلح نموذجا حقيقيا لخصوصيتها من حيث أنها جمعت بين علامات عدة كأن تكون صادقة والصدق أعتبره شخصيا من أهم مداخل الإبداع، فهي تحيل في مجمل فضاءاتها على الحنين الذاتي الذي ربط ويربط كاتبها بفضاءات متعددة في ظاهرها لكنها مؤتلفة في عمقها يشدها خيط واحد هو خيط المكان ووجوهه المألوفة، المدينة بأزقتها وعلاماتها، وهذا أمر جيد إذ طالما إتخذ الكتاب المكان مدارا لأعمال ناجحة بل يكاد المكان يكون البطل الأوحد في عديد القصص... لكن المكان عند محمود بلعيد ليس ذلك العام المنفتح على احتمالات الحركة والحاضن لإيقاعات الجماعة البشرية وتناقضها بل هو مكان منغلق ينتقي منه البطل ما يتلاءم مع ذاته الحاضرة ومع امتدادات الذات عبر عمليتي التذكر والإسترجاع... مكان محمود بلعيد ليس مكان محمد شكري أو مالك حمودة أو مرسال بروست... وهو كذلك ليس مكان نجيب محفوظ المثقل بالصراع والحلم وليس مكان بلزاك المليء بالتدافع والمثقل بالممكنات... هو مكان لا زحام فيه ولا شجار... ملجأ يستعيد فيه الكاتب حميمية ما، فيها بعض الطرافة، طرافة من يسعى الى تثبيت لحظات منفلتة ومن يستمتع باستعادتها في مختلف أبعادها الذاتية، قلت الذاتية وهذا ليس عيبا لأن الفن ذاتي بالضرورة، لكن المسألة ربما تنقلنا من النص الى الذات ومنهما الى الواقع، لأن الإبداع في مجمل أحواله هو أصداء الذات الملآى التي تفرغ شحنة في المستوى النفسي وتثبت موقفا في المستوى الإدراكي وتبدع جميلا في المستوى الذوقي... ومن هنا ربما تتبدى الخصوصية الفنية في علاقة بالذات وموقعها في الواقع، لنفرق بين كتابة المعاناة وكتابة الحنين والوجدان، فمحمود بلعيد صور المدينة ووجوهها، كما أن محمد شكري صور المدينة ووجوهها لكن شتان بين الصورتين، صورة أولى وهي صورة النمط المتناسق وصورة ثانية وهي صورة المهمش الضائع، عين محمد شكري رأت قاع المدينة في حين ان عين محمود بلعيد رأت سطح المدينة، صورة الإندماج والتآلف والتصالح في مقابل صورة الإختلاف والإغتراب...لا عيب في ان يكون الكاتب مترفا في موقعه الشخصي لكن العيب في أن ترتد نظرته للحياة والكون ضمن مملكته الخاصة.»إما أن يكون الإنسان الإنسانية جمعاء وإما أن يكون لاشيء»2 جملة وردت على لسان عثمان خليل بطل الشحاذ لنجيب محفوظ فيها اختزال لموقف إنساني شمولي لكنه ينطبق أكثر على الكتاب والمبدعين، لأن الكاتب هو ذات جمعية حتى وان تعالى او اعتزل فهو يضج بأصداء الجماعة في لحظة تاريخية معينة، ابو العلاء المعري من عزلته القاتلة اختط سبل الخلود ناقدا واعضا في اللزوميات ثم ساخرا « سخرية الرصانة الفاجعة « في رسالة الغفران ، بعبارة أدونيس، فشيخ المعرة كان قد طلق الناس ولعنهم في واقعه، وصلته اليومية لكنه احتضنهم كل الإحتضان بإبداعه، فصور بؤسهم وعجزهم وأحلامهم ... صورهم في مجمل أبعادهم. عندما يقول بطل كامي في المتمرد:»إني استشعر مع المقهورين حظا من التضامن أكثر مما أستشعر مع القديسين، إني لا أحب البطولة أو القداسة إن الذي يهمني هو أن يكون المرء إنسانا»3وقد يكون الإبداع بما هو خلق من أرقى المظاهر الإنسانية وبما هو كذلك هو تأكيد لأنسانية الإنسان بمفهومها الأعمق الذي يتجاوز الفردية المتوحدة، والحياد السطحي المزيف... وأعتقد ان محمود بلعيد كاتب مرهف الحس وذلك جلي في كتاباته، لكن حساسيته تلك لم تلتقط لنا أصداء أخرى في المدينة، أصداء لا يخلو منها بيت ولا حارة، أصداء الأماني المغدورة والأحلام المخدوعة، أصداء العلاقات البشرية في توترها بين النقائض، أصداء الحفاة المتكاثرين: حفاة الأرجل وحفاة الأرواح. مجال الصراع والتاقض إن لم يكن في الطبقات فهو في الذات الواحدة: في توترها وحبها وحقدها وانسجامها وجنوحها، عندما يكتب ألبارتو مورافيا عن الذات حفرا وتعرية يكشف الوجه المتناقض فيها ذلك الذي نخفيه بقناع البروتوكول اليومي، وحين يكتب محمود بلعيد عن الذات مقنعة بابتسامتها المعلقة في الفراغ. نقول أخيرا أن هذه المجموعة الجديدة تعتبر إضافة للمدونة القصصية التونسية لما توفر فيها من صدق وجداني ومن قدرة فنية في الصياغة، ونأمل أن يتحفنا هذا الكاتب القدير بالجديد الذي تتوسع فيه آفاق الرؤيا لتتجاوز التذكر والحنين الى ما هو أعمق في المدينة وأبعد في تلافيف الذات البشرية. ------------------------------------------------------------------------ محمود بلعيد: كاتب تونسي احترف القصة وأصدر مجموعات كثيرة منذ السبعينيات. 1 حب من نوع خاص: قصص محمود بلعيد. الدار العربية للكتاب تونس 2007 2 الشحاذ. نجيب محفوظ ص 142