كنت مولعاً بالأدب منذ الصغر،قرأت نجيب محفوظ . والمفارقة أنني لم أكن أعرف المسرح على الخشبة، فلم يكن هناك مسرح في مدنين وقابس وجربة أين درست وترعرعت، ولكنني أغرمت بقراءة المسرحيات. قرأت كل المسرح اليوناني، الفرنسي، وما كتب بالعربية. أول مسرحية شاهدتها كانت في المسرح البلدي عندما كنت طالباً في ترشيح المعلمين. كانت مسرحية الطيب الصديقي «حميدة مومو» اقتباس عن مسرحية «أميديه أو كيف تتخلص منه» لكاتب أعشقه وقرأت له جل ما كتب، أوجين يونيسكو. عندما قيل لي أن المسرحية بالدارجة، كدت أعزف عن الدخول، ثم أقنعني الشوق وقررت أن أغامر. بعد خمس دقائق اندمجت تماماً، واستمتعت كامل الاستمتاع مع هذه المسرحية. بدأت اذن محاولاتك الكتابية للمسرح؟ كان من الطبيعي أن أبدأ محاولاتي بالكتابة للمسرح. بدأت بكتابة فصول كثيرة أركز فيها خاصة على الحوار. كنت معجباً بقدرة بعض الكتاب المسرحيين مثل توفيق الحكيم على كتابة الحوار. الذي يعتمد العبارة القصيرة والرد السريع. في نفس الوقت كنت أقرأ لنجيب محفوظ،الطيب صالح،تولستوي،والأخوة كارامازوف التي أعتبرها أجمل رواية في العالم لدوستويوفسكي... كنت أحلم بالكتابة، وكتبت أول رواية لي قبل أن أتخرج من التعليم الثانوي، قرأها أساتذتي ومنهما المرحومان: محمد العربي عبد الرزاق، وعبد الرحمن صمادح. كذلك السيد صلاح الدين بن حميدة الذي كان مدير الملحق الثقافي لجريدة العمل. وكان أول اتصال معه بعد أن رفض أن يبعث لي جائزتي التي فزت بها في القصة، والتي نظمها الملحق الثقافي خلال سنة 67. كانت القصة تحمل عنوان «الجبان» وفازت بالجائزة الثانية،ثلاثون دينارا. بينما حجزت الجائزة الأولى, وتعلل الأستاذ فرحات الدشراوي بعدم رسوخ أقدامنا بالنصوص القصصية. باعتبارها فناً طارئاً على الأدب العربي. وفاز في نفس السنة المرحوم الطاهر الهمامي بالجائزة الأولى اما للشعر أو للنقد. ولما أخبرت صلاح الدين بن حميدة بعدم توصلي للجائزة، طلب مني أن أتصل به في تونس حتى يتعرف علي. ولقيت منه الكثير من التشجيع. نشرت بعدها في الملحق الثقافي عدة قصص، منها «سحقاً للعنكبوت» على جزأين. كنت أنتظر بفارغ الصبر نهاية نشر «قصة العدوان» لعز الدين المدني، والتي نشرت على صفحات الملحق طيلة شهر أو أكثر. حتى تنشر لي الجريدة قصتي . وفي نفس الفترة كان محمد ادريس ينشر كتاباته، منها «الريش والعروق»، وكثيرون بدأوا حياتهم الأدبية على صفحات الملحق الثقافي لجريدة العمل. لماذا لم تتابع انطلاقتك الأدبية ؟ المعضلة أنني كنت ملزماً بالتحاقي بسلك التعليم في جربة . رغم أنني كنت أتوق إلى البقاء في العاصمة للاتصال بأهل القلم ودخول الجامعة، لكن كنت مجبراً على الغوص في المهنة ومشاكلها، الا أنني لم أبتعد عن عالم القراءة والكتابة . لكن على فترات متباعدة،وعدت من القصة الى المسرح من جديد. كتبت مسرحية «الى روما» وكادت أن تفوز بجائزة الحمامات . كتبت أيضاً مسرحية «منصور الهوش» التي عرفت في الساحة الثقافية لما أحدثته من ارتباك في الساحة السياسية. هل صحيح أن الرئيس بورقيبة نفسه هو الذي طلب منعها بعد أن شاهدها ؟ اختاروا هذه المسرحية ليشاهدها الرئيس بورقيبة،على أساس أنها تعالج حياة مقاوم،قال البعض إن الرئيس غضب لأنه لم يذكر في سياق المقاومة . بينما المسرحية تتحدث عن مقاومة 1881 . عند دخول الاستعمار الفرنسي وهو لم يكن موجوداً على الساحة السياسية آنذاك. تفسيري الخاص لغضب الرئيس وتوقف العرض، وما ترتب عنه من تغيير وزير الثقافة آنذاك، أن الرئيس بورقيبة الذي أجله كثيراً،لم يغضب لسبب ذاتي كما يدعون،لكن لأن المسرحية هزيلة،فهي باللغة الدارجة، والاخراج بسيط للغاية. والزعيم بورقيبة عرف بذوقه ومعرفته للمسرح. متى عدت الى كتابة الرواية ؟ عودتي الى الرواية تأخرت عفواً، ثم عمداً. عندما اقتربت من سن التقاعد. أدركت أنني محظوظ،لأنني ادخرت مشروعاً أدبياً مثيراً أهم من العمل نفسه. وفي سنة 2005. سنة أولى تقاعد، قدم الناشر روايتي الأولى «قصر النخلة» الى مسابقة كومار، وتحصلت على الجائزة الخاصة للجنة التحكيم. ثم كتبت روايتي الثانية «سرنديب» وأنا بصدد مواصلة مشروعي وهو الكتابة من وعن مدنين. وأرجو أن أجد صحتي وما يساعدني على انجاز مشروعي أو بعضه. أشعر أحياناً أنني أهدرت كثيراً من الوقت قبل أن أتفرغ الى الكتابة الروائية. لكنني أستدرك واقول : أنني اكتسبت كثيراً من التواضع في رسم أهدافي. باعتبار أن تلك الحرارة في سن الشباب والطموح المتقد لنيل الجوائز والتعجل في الكتابة، تخلصت من كل ذلك بحكم السن والتجربة،أكتب بنوع من السكينة لم تتوفر لي في سن الشباب،وقد أمضيت تلك المدة في خدمة مدنين والثقافة. ما هو لديك الهاجس الأول للكتابة ؟ هاجس الكتابة ينطلق أولاً وأخيراً من محبة عجيبة لمدينتي مدنين. كلما توغلت في تأمل واقعها،حاضرها وماضيها. ازداد ايماني بأن هذه المنطقة ثرية جداً . مع كل مقومات النضال، من أجل حياة أفضل. نظراً لصعوبة المناخ، ونظراً لما مرت به الجهة في تاريخها الطويل من أحداث متوالية ومتضاربة،مثل صراع القبائل للزمن السابق للفتح الاسلامي والعودة الى الجاهلية. في فترة ما من القرون الوسطى. ومع ذلك حافظت الجهة على قيمها الانسانية .والتشبث بالحياة،والقدرة على العطاء في مفاهيمه المتعددة البسيطة والمركبة. أعشق مدينتي لهذه الأسباب وغيرها. ولعلني تأثرت بغيري من الكتاب، مثل ما فعل نجيب محفوظ. أو قارسيا ماركيز،أردت كتابة ما عشته شخصياً، ولا أتحدث عن سيرة ذاتية،لكنني شاهداً على فترة معينة،ككاتب فنان لا مؤرخ. كان يسوقني الحنين أحياناً الى تذكر مشاهد من حياة الطفولة، في انتظار تصريح المفتي بالصوم من خلال الاذاعة، عندما كان لمدنين مذياع أو اثنان فقط . أشهرها مذياع قهوة الديوري. في هذا الاطار كتبت رواية «قصر النخلة» تمجيداً للبطولة والمغالبة، وللانخراط في الصراع بدون وجل ولا خوف. وهذا يسدل على كل المجالات في الحياة . بطلك شبه أسطوري ؟ أردت أن أجعل من بطلي شخصية روبن دو بوا، أو زاباتا. أو سيف بن ذي يزن . كما يقول الراوي في الرواية . لكن الرواية ليست تمجيداً محضاً لهذا البطل . بل يحتل الوسط فيه مكانة مرموقة. وسط مثقل بالبطولات الخفية التي لا تظهر للعيان. فبلقاسم بطل يصارع الاستعمار. بصورة غريزية تقريباً،أي بدون وعي سياسي حاد. سي حسن بطل هو أيضاً،لأنه يحاول أن يمارس السياسة بكثير من الحذر،لكن عمله يصبح نبيلاً،عندما يضعه في نشاط مسرحي تثقيفي مع أول فرقة مسرحية تكونت في مدنين في العشرينات. والكيلاني الراوي بطل هو أيضاً،لأنه يسحر ببلاغته سامعيه،ويصعد بالفن الروائي الى مستويات عليا،تجعل بلقاسم البطل محل اعجاب الجميع. هل الرواية الثانية «سرنديب» من نفس المنبع ؟ هي من نفس المنبع، لكنها تنزل في اطار مغاير من حيث الشكل ومن حيث المضمون. هل الكتابة عن مدنين محاولة استرجاع زمن مستعاد ؟ كتابتي من مدنين وعنها ليست استرجاعاً صرفاً .وربما ليس هو الهدف، هدفي مرتبط بايماني بخلود الكتابة. وتبعاً لذلك، أعتبر نفسي ساهمت في تخليد حياة هؤلاء المكافحين الذين كتبت عنهم، في ممارستهم اليومية في كل أشكال النضال، بدءاً ممن يعيشون في البادية،أو في رحاب القصر. وانتهاء بمعاصرينا الذين يعيشون حياة مختلفة،ويعانون معاناة مختلفة،فرضتها حاجيات مختلفة. هل هناك اسقاط من الماضي على الحاضر ؟ الرواية مبنية في جملتها على دعائم واقعية. يبقى الكساء والتدخل الفني، يعطيها شكلاً آخراً من خلال تصوره الشخصي. ومن خلال حلاوة الحنين،لا أنكر ذلك، رغم ما في الحنين من زيف أحياناً. لأنه يحمل أشياء لم تكن جميلة . وأشياء أخرى مشرقة حقاً. أعتقد أن التشابه يعود الى القضايا الكبرى التي يعانيها الانسان في كل مكان. فالانسان في اليابان يشبه الانسان هنا. لأنه المحرك الأساسي في الحياة . هنالك في نهاية الأمر نضال من أجل البقاء. ومن أجل نوع من الخلود أسباب متشابهة. لو جردنا الجزئيات التي تغير الخصوصيات،والتي تسمى اليوم بالهوية،لوجدنا أن هنالك هوية كونية . هل تتبع أسلوبا خاصا في الكتابة ؟ تعاملت من خلال تجربتي البسيطة مع أسلوبين مختلفين في الكتابة . بالنسبة للرواية الأولى،أعددت لها مخططاً مدققاً عانيت أثناءه، لكنني وجدت بعض اليسر عند الكتابة والتحرير،رغم أن بعض الشخصيات تمردت علي،وغيرت مصيرها بأيديها. علماً أن هناك شخصية ساحرة في الرواية، لم تكن في المخطط، برزت فجأة واحتلت مساحة مهمة. جعلتني أفتن بها شخصياً، لكن بصراحة تعندت ولم أترك لها مجالاً في الفوز ببطولة الرواية، لأنني كنت أخترت بطلي سلفاً .محمد زرن المخرج المعروف،اطلع على الرواية وأعجب بها،وفتنته شخصية ريم،الشخصية المتمردة التي فرضت نفسها وآثرها على شخصية زهرة،التي لم أشأ أن أحرمها من البطولة،لأنها كانت سابقة. اذن التخطيط لا يكفي،على الأقل في تجربتي الخاصة،قد يساعد على رسم الطريق بصورة اجمالية، لكنه يعجز تماماً على التنبؤ بمفاجآتها . و«سرنديب» روايتك الثانية ؟ سيتجلى من خلال تركيب الرواية الثانية، وهم قد يخدع القارئ، لأن بنيتها معقدة، وتبدو متكلفة أحياناً رغبة في تجديد المزعوم . لكنني في الحقيقة لم أجد شكلاً ملائماً لحياة الحارة المتدفقة بالمتناقضات، بين ما هو تقليدي،وبين ما هو بعض مظاهر الحداثة، فالنساء يرقصن ليلاً حول شجرة تشبه شجرة عيد الميلاد، يؤبن ويندبن حظ الحسين، دون أن تشعرن بذلك، وهذه الشجرة تشبه عندنا في مدنين «بلال». هل هناك شخصيات تستمدها من الواقع ؟ احدى شخصيات رواية «سرنديب» هو رجل من أقاربي تزوج في سوريا،كان ضابطاً في الجيش الفرنسي، وكانت زوجته امرأة استثنائية فيما يبدو. على مستويات متعددة. تصوري دهشة نساء مدنين في الثلاثينات،رغم أنهن من عائلات ميسورة، وهن يحضرنها تعزف العود، وتغني المواويل. وفي التركيب للرواية، رؤية تصويرية لجميع المتناقضات، من مشهد النساء الراقصات حول «بلال» أو الشباب الذي يتعاطى المسرح، ويرتاد السينما في بداياتها في الخمسينات. أو أولئك الذين انتموا الى جمعية أولمبيك المدينة لممارسة كرة القدم. سنلتقي ثانية مع محمد العيادي العوني، وسرنديب والتآخي والتسامح، وقصة حب على طريقة روميو وجولييت، بين أولاد الجيران، لكن البنت «استير» يهودية والحبيب مسعود ابن الحاج. زمن مخاض يبشر بولادة عالم جديد، بما في المخاض من عسر، ومع ما فيه من غموض. ايماني بخلود الكتابة... يدفعني للكتابة من مدنين وعنها ! محمد العيادي العوني، من مواليد مدينة مدنين . متزوج له أربعة فتيان وبنت، وحفيدة رزق بها أخيراً سميت «ايلاف» تنقل بين وظائف ثقافية ومهام سياسية, أجل أحلامه في الكتابة، الى سن التقاعد، كتب روايتين رائعتين نالت الثانية جائزة لجنة التحكيم في مسابقة «كومار» سنة 2008. ولع منذ الصغر بكتابة المسرحيات والرواية. قرأ باكراً جل المسرح العربي والعالمي، وأغرم بعالم السينما،كان يرتاد القاعة الصغيرة الوحيدة في الحي مرات في الأسبوع،يجمع الملاليم الذي يحصل عليها من والده ليعيش ذلك العالم السحري المليء بالاكتشاف والدهشة في مدينة مدنين .