حدّثتني الروابي والارض الشاسعة المعطاء وجدران المصانع وآلات العمل عن سواعد الفلاحين والعمّال وعن عرق جبينهم، عن دمائهم الطاهرة الزكيّة التي روت الارض لتنبت الحياة. قالت: سمعت من اخوة لي في مكان قد تعرفه، أنه كان هناك صاحب أرض شاسعة خصبة يشغل فيها بضعة فلاحين منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة وأقام عند مدخلها مصنعا صغيرا لتحويل منتجات هذه الضيعة الى مواد استهلاكية معبّرة لترويجها فيما بعد وكان يشتغل فيها كذلك مجموعة صغيرة من العمال ورغم انه لم تكن تتوفر لهم ظروف جيدة ومريحة للعمل، الا ان بؤسهم وفقرهم الشديد ارغمهم جميعا الفلاحين وعمّال المصنع على الرضا بذلك الاستغلال القبيح سوى فرد منهم وعلى طول فترة عمله كان يصرّح بعدم رضاه بذلك الوضع «شغل من الضيّ الى الضيّ، جهد سخي طوال اليوم مقابل فرنكات لاتفي بالحاجة...» وبانه يطمح الى تغييره كليا وليس مجرّد التحسين البسيط فقط. ومن هذا الشعور وبناء على احساسه بالظلم وبارادته الصلبة، بدأ بنشر رسالته لمن يجد فيه الرغبة في الحصول على حقوقه المتمثلة حسب تقديره في ضبط ساعات العمل والاجر وكلّ ما يدخل في تحسين وضعهم المادي والشغلي والاجتماعي وخاصة إلغاء تلك العلاقة غير الانسانية التي يكرسها اصحاب الارض والمصنع من جهة أخرى، محدّثا رفاقه بان النصر سيكون حليفنا لو تتحد افكارنا وإرادتنا راويا لهم قصة تحفزهم على التوحد لتغيير واقعهم المرير حيث قال لهم ليأخذ كل واحد منكم عودا من شجرة زيتون ويكسره فتكسّرت الاعواد جميعا بلا عناء ثم امرهم ان يضمّوا الاعواد على شكل مجموعة «حزمة» في مرحلة ثانية وطلب لكل واحد منهم ان يكسرها موحّدة فلم يفلح أحد منهم ثم أردف وقال هكذا نحن الان في اتحادنا تكمن قوتنا مختتما حديثه بهذه الابيات «كونوا جميعا متحدّين يا رفاقي اذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا...» وبعد عناء طويل وصبر على الاذى استطاع بصدقه وبعزم كبير منه ان يضمّ اليه العمّال والفلاحين بعد ان تشبّعوا بمبادئ رفيقهم واستوعبوا مطالبهم البسيطة الممكن تحقيقها باتحادهم وتضامنهم ومساندتهم لبعضهم البعض فيما يصبون اليه وشيئا فشيئا امتدّ صوت هذه المجموعة ليصل الى الاراضي المجاورة القريبة التي سهّلت بدورها عبور صدى ذلك الصوت القدسي حتى بلغ الاراضي البعيدة. والتفّ الناس عمّالا وفلاّحين من حولهم يعاهدونهم على الانتصار لافكارهم ومبادئهم النبيلة والتي تعالج قضاياهم بالأساس، واعدين ببذل كلّ ما يستطيعون لنحت مستقبل أفضل... وسكتت الارض وسكتت حركة المصانع. كانتا تغضّ الطرف عن حدث مرير ففهمت صمتها المشحون بالاسف الكئيب، ونظرت للعشب والاشجار التي أضحى لا يأتيها الربيع «أظنك فهمت لقد خانوهم». فأجابني من بقيّ منهم على العهد بشجن وحسرة وأسى خُيّل اليّ اني استمع الى صوت إله الحبّ والخير وقد مٌزّقت له كل أوتار قيتاره القدسية التي تعزف لحن الخلود «لو لم تخترقهم الخيانة والفتنة من داخل صفوفهم لبرهنوا باتحادهم ونبل مقاصدهم على أنهم لا يبغون الأكل فقط ، بل والكرامة الانسانية والحريّة، وأنهم رغم حياة الشقاء التي تسلط عليهم لجديرون ببلوغ مقصدهم، بل أنهم قادرون على التميّز كلّ في ميدانه المهني ولكن الخيانة مزّقت صفوفهم وأثنتهم عن عزمهم والى المستنقع الخبيث اعادتهم فطمس هذا النّور المقدّس الذي يجب ان يبنوا عليه أحلامهم». وغشائي الصمت، صمت كالموت، بل هو أقرب للحياة الابديّة في قاع الجحيم.. فقلت لاخوتي هكذا بأياد ملوثة بدماء الاشقياء الكادحين يقبر الحلم الجميل... لكن حذار ان الارض الطيبة دوما معطاء وستنجب من جديد المناضلين الحكماء العظماء.