------------------------- الكتاب: بورقيبة والإعلام: جدلية السلطة والدعاية تأليف: خالد الحداد الناشر: مطبعة تونسقرطاج يوجد أكثر من سبب للكتابة عن هذا الرجل الذى طبع مرحلة مهمة من تاريخ تونس المعاصر بجسارة أفكاره وسياساته وقدرته على إيجاد المسوغات النظرية لمخالفة السائد والخروج عن المألوف محليا تونسيا وإقليميا عربيا. ومن الأسباب الكثيرة المسوّغة للكتابة عن بورقيبة ما لخّصه الباحث والصحفى التونسى الأستاذ خالد الحداد فى مقدمة كتابه الصادر حديثا: "بورقيبة والإعلام: جدلية السلطة والدعاية" والتى وضعها تحت عنوان: "بورقيبة: زخم الدراسات وانفتاح القراءات"، فى "أنه من الاستحالة أن تتم قراءة تاريخ تونس دون الأخذ بعين الاعتبار الحضور البارز للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، فصورة الرجل مبثوثة فى خبايا مقاومة المستعمر الفرنسى وفى مساعى التوقيع على وثائق الاستقلال الداخلى والاستقلال النهائى وفى معركة الجلاء الزراعى وعبر مختلف مراحل بناء الدولة التونسية الحديثة..". أما إجرائيا فإن "مسألة حداثة الحكم البورقيبى كونه ما يزال زمنيا قريبا من الذاكرة والأذهان فإن طموح الحصول على حقائق الوقائع والأحداث وإجراء قراءات علمية وبناء تحاليل أقرب إلى الحقيقة حول خصائص ذلك الحكم تبقى ممكنة وجائزة بحكم توفر الكتابات والوثائق والشهادات التاريخية وبقاء عدد غير قليل من الذين عاشروا الرئيس بورقيبة على قيد الحياة مما يتيح المجال إلى التواصل معهم لتجميع المزيد من المعطيات والتفاصيل والوقوف على المزيد من الحقائق والمعلومات التى لا شك فى قيمتها حاضرا ومستقبلا فى التأريخ لتونس الحديثة وفهم أهم الأحداث والأطوار التى مرت بها".. مؤلَّف الأستاذ خالد الحداد هذا عمل علمى أنجز لنيل شهادة الماجستير فى علوم الإعلام والاتصال، وذلك بعض ما يفسر سمتيْ العمق والشمول اللتين طبعتاه وتجلّتا شكليا فى تعدد الأبواب والفصول والملاحق التوثيقية، ومضمونيا فى الإبحار فى التفاصيل وملازمة الحياد العلمى فى قراءة المعطيات واستثمارها والاستنتاج منها، وفى هذا المستوى تحديدا لم تكن آراء المؤلِّف هى وحدها ما يؤثث مؤلَّفه بل بين دفتى الكتاب كم كبير من آراء مجايلى بورقيبة ومعاصريه ومن شاركوه العمل والتى أثرت البحث وأضفت عليه من الصدقية ما يكفى ليجعل منه وثيقة تاريخية ومرجعا من مراجع البحث فى المرحلة البورقيبية. مُطالع هذا البحث القيّم يستطيع أن يتلمس بيسر بالغ بناءه المنطقى المحكم القائم على الانطلاق من النظرى تدرّجا باتجاه العملى التطبيقى فالحدّاد ارتأى أن "يحاصر" فى الباب الأول من مؤلفه المنطلقات النظرية للمقاربة الإعلامية البورقيبية وأن يُشبع هذا الجانب النظرى درسا وتحليلا على مدار فصلين اهتم أولهما بالأبعاد الفكرية والفلسفية، فيما انصب الجهد فى ثانيهما على ما أسماه المؤلف "تساؤلات ومفاهيم". وبما أن محط الاهتمام فى هذا الباب نظرى بالأساس فقد توسع الباحث متجاوزا موضوعه الأساس لينير بعض السمات المستجدة عالميا فى مجال الإعلام والاتصال عموما "حتى أصبحت الممارسة الإعلامية والاتصالية مؤشرا ومقياسا للوقوف عند خصائص ومميزات سائر الممارسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وفهم التطورات الحاصلة فى كل منهما"، وربطا لذلك بالمنظور البورقيبى للإعلام، يتساءل الباحث فى نهاية الفصل الثانى من الباب الأول: " ..فما هى الوظائف التى أرادها بورقيبة لمختلف وسائل الإعلام والفاعلين الإعلاميين، وما هى الأدوار التى نفذها عمليا رجال الإعلام والاتصال الموجودون إلى جانب بورقيبة من وزراء وكتّاب دولة ومسؤولين فى القطاع الإعلامى العام أو الموجودون فى المعارضة أو فى إدارة الصحف والدوريات المستقلة؟"، معلنا بذلك عن نقلة كبرى فى مسار البحث من المنطلقات النظرية إلى تتبع الآثار العملية للأفكار والنظريات الإعلامية والاتصالية المتراكمة والمستحدثة فى المقاربة البورقيبية فكرا وممارسة. إن فهم بورقيبة -وفق ما يثبته بحث الأستاذ خالد الحدّاد- لأهمية عاملى الإعلام والاتّصال فهم مبكر وخصوصى فى آن.. يتراءى ذلك من خلال مساءلة الباحث فى فصل معنون ب"الكتابة الصحفية والبذور الأولى للاتصال السياسي" لجملة من المقولات والنصوص البورقيبية مبثوثة طى خطب له ومحاضرات ومؤلفات، فقد "تمكن بورقيبة من أن يوجد بصفة مبكرة ما يمكن اعتباره الرسالة الإعلامية التى سيكون لها رجع صدى وتأثير على الحياة العامة فى البلاد، تأثير يصل مداه الشعب وكذلك المستعمر.."، هذا فى مرحلة الاستعمار والنضال من أجل استقلال تونس، ف"كيف ستكون رؤية بورقيبة للإعلام والاتصال حين تسلّمه مقاليد الحكم ورئاسة الدولة التونسية المستقلة؟".. يتساءل الباحث فى نهاية الفصل الثانى من الباب الأول، ولتنبنى الإجابة فى ما يأتى من الكتاب بالتدريج وعبر البحث والتقصى وتحليل الخطاب البورقيبى .. إجابة ملخّصها أن التمثل البورقيبى أسّس "علاقة خاصة بين الإعلام والجمهور، علاقة تتجه أكثر ما تتجه إلى العلاقة العمودية الخالية من أى تفاعل أو مشاركة أو جدل، إذ رغب بورقيبة من الإعلام أن يكون فى منزلة القيادة والتوجيه وأراد للجمهور أن يكون فى منزلة المتلقى المطالب بتغيير أفكاره ومثله وقيمه دون حق إبداء الرأى أو المجادلة أو طرح القضايا التى تشغله".. إن تشابك الإعلامى والسياسى فى الفكر البورقيبى هو من الجوانب الهامة المطروقة بعمق فى بحث الأستاذ خالد الحداد، تشابك أفضى فى نهاية المطاف إلى التماهى بين عمل الإعلامى ورغائب رجل السياسة وإلى الارتباط التام بين الآلة الإعلامية وباقى أجهزة الدولة، وفى النهاية إلى أحادية إعلامية مستحكمة تعرّض لها الباحث بالنقد .. يتجلى ذلك على سبيل المثال فى فصل معنون: "من سلطة الإعلام إلى إعلام السلطة"، حيث يبيّن الباحث أن "نظرة الأبوّة فى التعامل مع الشعب والجماهير" حكمت "على بورقيبة بالوقوع فى تناقض بين قناعاته السابقة فى كون الإعلام ميدانا للمناظرة السياسية والفكرية وفضاء لتطارح الأفكار والآراء وبين تمثلاته الرئاسوية فى تطويع هذا المجال لخدمة برنامجه السياسى الفردى وتحقيق أهدافه فى السلطة والزعامة ووحدة الأمة وتوجيه الشعب مما انعكس سلبا على أداء المشهد الإعلامى والاتصالى وأوجد فى العديد من الحالات مواقف مكرسة للإعلام النمطى الواحد".. إن هذا البحث من الثراء والشمول بحيث يعسر تلخيص كل ما جاء فيه من أفكار استمدت قيمة مضافة غير مسقطة ولا وليدة نظرة شخصية أو موقف مسبق رغم أن المؤلف طرف مباشر فى الموضوع المطروق بحكم أنه من رجال الإعلام، بل هى وليدة بحث رصين هادئ واستقصاء علمى معمّق. ومما يشد الانتباه فى هذا البحث ويزيده قيمة جانبه التوثيقى الذى يتجلى فى مساءلته "شهود عيان" على الفترة البورقيبية إما عاشوا على تماسّ معها أو ساهموا بحكم وظائفهم ومناصبهم فى الحقبة الأولى من دولة الاستقلال فى صنع أحداثها وتفاصيلها ما يجعل هذا البحث يوفر بدوره مرجعا هاما لبحوث أخرى لا شك أنها قادمة بحكم موجة اهتمام البحّاث والدارسين بالمرحلة البورقيبية.