عميد المحامين يوجه هذه الرسالة إلى وزارة العدل..    مجلس نواب الشعب يشارك في المؤتمر الخامس لرابطة برلمانيون من اجل القدس    الرابطة الأولى.. النتائج الكاملة للجولة 8 "بلاي آوت" والترتيب    انتخابات جامعة كرة القدم: إسقاط قائمة واصف جليل وإعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    طقس الليلة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    بطولة المانيا: ليفركوزن يحافظ على سجله خاليا من الهزائم    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    القلعة الكبرى: اختتام "ملتقى أحباء الكاريكاتور"    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    سوسة: وفاة طالبتين اختناقا بالغاز    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    الشركات الأهلية : الإنطلاق في تكوين لجان جهوية    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    تخص الحديقة الأثرية بروما وقصر الجم.. إمضاء اتفاقية توأمة بين وزارتي الثقافة التونسية و الايطالية    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    كاردوزو يكشف عن حظوظ الترجي أمام ماميلودي صانداونز    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل البورقيبيّة حريّة بثورة الكرامة ؟ د. عميرة عليّة الصغيّر
نشر في الفجر نيوز يوم 13 - 02 - 2012


د. عميرة عليّة الصغيّر – مؤرخ جامعي
بسقوط رأس النظام بتونس يوم 14 جانفي 2011 و تأكّد تطلّع الشعب التونسي إلى نظام يقطع مع ما كان حُكم به من استبداد منذ استقلال البلاد و يضمن له الحرّية و الكرامة و العدالة الاجتماعية، حتى انبرت أصواتٌ تقدّم لنا البورقيبيّة كبديل مُنقذ و حتى تكوّنت أحزاب ترفع راية البورقيبيّة كحل أمثل لتونس الثورة و كأنّ الشعب لم يجرّب حكم بورقيبة لأزيد من ثلاثين سنة ؟ و كأنّ الناس غير واعين انّ المخلوعَ هو الإبن الشرعي لبورقيبة. وإن كنّا نتفهّم أن يوجد في كلّ عصر من يحنّون إلى الماضي و يطمحون إلى إعادة استحضاره كصيغ فعل في الواقع و كتلبية لحاجات نفسيّة تطمئنّ الحائرين برموز تاريخيّة اُسْطِرت و أصبحت أيْقونات للخلاص الفردي و حتى الجماعي فانّنا ، من الوهلة الأولى ، ومن موقعنا كمواطن خبرَ حكمَ بورقيبة وكذلك حُكمَ صنيعته بن علي و كباحث يضع نفسه في صفّ الثورة ، لا نرى في البورقيبيّة لا خلاصا و لا بديلا لبناء وطن الحرية و الكرامة و الديمقراطية و العدالة الذي نحلم به وأن كان يسوّقها عجوز انتهت صلوحيّته العمريّة و السيّاسية يسمّى بآلة تسميم الصدور، أي السبسي . لماذا ؟
لأنّ دولة بورقيبة كانت على طرفي نقيض مع السيادة الشعبيّة و مع الحريّة و مع الأنظمة الحديثة، وإن كان للتجربة البورقيبيّة شروطها التاريخيّة التي ربّما تسوّغ حدوثها وتجد لها الأعذار فانّ البحث على إعادة تطبيقها في تونس الثائرة ليس فقط هو غباء تاريخيّ بل هو جريمة ،مع سابق الإصرار، في حق الشعب و انقلاب على الثورة.
في البدإ و عكس ما يدّعيه حواري بورقيبة و مادحُوه – ماضيا و حاضرا - نؤكّد أن ليس هنالك "بورقيبيّة" ولا فلسفة ولا نظريّة بورقيبيّة كلّما في الأمر انّه كان هناك خطاب سياسي مغلّف بالحداثة و العقلانيّة و شعارات تحيل مرّة لتاريخ الحركة الوطنيّة و مرّة للفلسفة الليبراليّة دون أن يرتقي ذاك الخطاب الى فكر قائم الذات أو نظرية متماسكة .لذا يقوم تفنيدنا لادّعاء صلاحيّة ما أُطلق عليه "بورقيبيّة" على فحص حقيقة حكمه من 1956 حتى 1987 و الذي نراه لم يكن لا حداثيّا و لا ديمقراطيّا و لا عادلا رغم مكتسبات أخرى تحسب له فصّلناها في كتابات سابقة .
إن الصّورة النّاصعة- عند البعض - للنّظام الذي بناه بورقيبة لا تصمد ملامحها الحداثيّة أمام مساءلة الواقع و فحص ممارسة السّلطة في عهده وكذا النظر في مكانة المواطن من حيث حقوقه السّياسية التي ضمنها له الدّستور. ثم إن الثقافة والقيم التي سادت المجتمع في عهده جانبت قيم وثقافة الحداثة المنشودة أو المتعارف عليها. ولنبدأ بالمستوى السّياسي.
1- مقدّمات الاستبداد في الفكر البورقيبي
تقوم الفلسفة اللّيبراليّة، المرجع الفكري للحداثة، على الإقرار بأن المجتمعات ليست متجانسة من حيث المصالح، كأفراد وكفئات وطبقات لذلك فإنّ الأنظمة السّياسية يجب أن تأخذ في الاعتبار هذه الحقيقة السّوسيولوجيّة وتقرّ بالاختلاف والتّصارع وأن تضمن الدولة الشّروط الفعليّة لتحقّقها، كما يتوجّب عليها احترام وتكريس الحرّيات العامة التي هي "التزامات سلبيّة على عاتق الدّولة تتعلّق باحترام الاستقلاليّة الذّاتية، إن كان ذلك في استقلاليّة الجسد واستقلاليّة الاقتصاد أو في استقلاليّة الصّيغ الجماعيّة للنّشاط" . بينما يقوم الفكر البورقيبي (و"فلسفته" ككل) على "الوحدة الوطنيّة" ونفي تضارب المصالح وصراع الطّبقات في المجتمع التّونسي وعلى ضرورة الوحدة الوطنية "الضّامنة لتحقيق الأهداف القوميّة" فالوحدة "حقّقت الاستقلال وهي التي تحقّق أيضا التّنمية والتقدّم". هذه المسلمة الأولى في مرتكزات النّظام سوف تزيّف الصّرح السياسي الذي أعلنه دستور 1959 وتؤدي إلى وصاية الدّولة على المجتمع وتهميش أفراده. المسلّمة الثانية لدى بورقيبة والتي دام التمسّك بها حتى بداية الثمانينات بإقرار نوع من التعدّدية الشكليّة وهي أنّ "الحزب الدّستوري" هو "حزب الأمّة كاملة" يبرّر وحدانيته واحتكاره للحياة السّياسية تارة بأسبقيته وجدارته التّاريخية وتارة بأن لا ضرورة تاريخيّة للتعدّدية بما أنّه لا توجد قوى أخرى يمكن أن تنافسه لأن "الواقع والظّروف الحالية جعلت قيام حزب آخر أمرا غير معقول، إذ لم يوجد تكتل له طريقة أخرى وأهداف أخرى ووسائل أخرى توفي بالصالح العام وتجمع حولها جانبا عظيما أو حتى جانبا متوسّطا من الشعب التونسي" والسّبب الأهم الذي يبرّر به بورقيبة الحزب الواحد هو اعتقاده أن التعدّدية تفتيت لوحدة الأمة وإيذان باندثارها وزوال الدولة. يقول في خطاب له ببنقى(في زيارته لها) في 7 ديسمبر 1965 : "في هذه المرحلة من ثورتنا لقد بدا لنا – كما بدا لكم – أنّ التعدّد الحزبي مولّد الصّراعات بين الإخوة والمزايدات والدّيماغوجية والتّخريب وهو ترف من شأنه أن يمنع تجنيد كامل الشّعب ويضرّ بسياسة التقشّف والدّعوة إلى العمل والانضباط التي بدونها يستحيل علينا تحقيق أهدافنا".
والأهم في فكر بورقيبة والذي ساهم في تكريس الاستبداد والحكم الفردي هو فهمه الخاص لمسألة الديمقراطية . فهو لئن لا يرفضها صراحةً، يضع لها شروطا تؤجل تطبيقها إلى ما لا نهاية. فهو مع ديمقراطية يكون دور الشعب فيها الاقتراع على من يختارهم له الحزب وتزكية قراراته. لماذا ؟ لأن بورقيبة يعتقد راسخا أن الشّروط التاريخية لممارسة مستلزمات الديمقراطية، لم تتوفّر بعد في الشعب التونسي، وأهمّ شرط يضعه هو النّضج السياسي "فالنّظام الديمقراطي لا ينجح إلاّ في الشعوب النّاضجة التي تستطيع تمييز الغث من السّمين" حسب تعبيره . والشعب في تونس في تقدير بورقيبة، لم يبلغ بعد تلك المرتبة وأنّه في رأيه "طامة كبرى في إرخاء العنان لشعب متخلف ذهنيّا ونفسيّا وإطلاق يده في إختيار من يتولى أمره وفي التصرّف كما يشاء" . لأنّ الديمقراطيّة "مثلها كجهاز آلي دقيق لا يحسن أن يعهد به إلاّ لذوي الخبرة والمعرفة وإلاّ انقلب وبالا" فمنع الديمقراطية ليس من الشّائنات في منطلق بورقيبة، بل هو عربون حكمة سياسيّة ومن فضائله على النّاس حتى أنّه يرجو "أن لا يجد النّاس أنفسهم مضطرّين بعد خمسين أو ستين عاما إلى القول "غفر الله للرّئيس بورقيبة فقد أقرّ الديمقراطية ونحن ما نزال بعيدين عنها" . ويردّ بورقيبة على منتقديه في تقييد الحرّيات وخاصة حريّة التعبير والصّحافة، مبرّرا سياسته دائما بعدم نضج الشعب وعدم اكتمال الوحدة القوميّة وتثبيت الدولة. "يقولون أننا لا نمنح حريّة الكلام أي أنّهم يريدون أن نفتح باب الحريّة على مصراعيه لكي يلجه من لا يستحق الحريّة ولكي يستعملها للهدم ولزرع بذور الحقد والكراهيّة وتشتيت شمل الأمّة وتقويض أسس الدّولة. وما من سبيل لمنح الحريّة الكاملة على نحو ما هو موجود في بريطانيا، إلاّ حين يصل مستوانا إلى مستوى الشعب البريطاني" . لكن كيف ينضج الشّعب التّونسي ويصل مستواه مستوى الشعب البريطاني ؟ بالتّعليم والتثقيف والتّبصير والتّأطير من الحزب، يعتقد بورقيبة . وسوف نرى لاحقا خورَ هذا المنطق وخطورة نتائجه.
هذه القناعات المترسّخة لدى بورقيبة وحتى لدى أغلب النّخبة الحاكمة معه (خاصة في الفترة الأولى من حكمه) أدّت إلى ممارسة للسّلطة هي على طرفي نقيض مع الحداثة.
2- البورقيبيّة في الممارسة :الاستبداد و الحكم الفردي.
دون أن ندخل في التفاصيل حول الاستبداد البورقيبي لأنّ عديد الكتابات الجامعيّة وخاصة من الحقوقيّين وغيرهم، أوفته حظّه سوف نتساءل هنا فحسب عن مدى توافق ممارسة الحكم في العهد البورقيبي مع ما يعتبره أهل الاختصاص تحديثا سياسيّا.
أوّلا إن الإجراءات التطبيقيّة المنظّمة للحريّات التي نصّ عليها دستور 1959، قيّدت ممارسة تلك الحرّيات إذ لم تمنعها من ذلك قانون الجمعيات (7 نوفمبر 1959) الذي وضع عدّة شروط تناقض ما أتى به الفصل 8 من الدستور، بما أنّه يعطي كاتب الدّولة للدّاخلية الحق المطلق في منح تأشيرة الوجود القانوني لأي جمعية مترشّحة وبالتالي أصبح حق وجود الجمعيات يعود إلى الحزب الحاكم بما أنّ الحزب هو الدّولة . كذا حريّة الاجتماع التي يضمنها نفس الفصل من الدستور يعيقها القانون المنظّم للاجتماع (24 جانفي 1969) وحسب هذا القانون فان حريّة الاجتماع والتظاهر والتجمّع حرّة بشرط الإعلان عليها للسّلط التي لا تستطيع منعها قانونيا. لكن الحزب الدستوري والإدارة لن تطبقا هذه الحريّة وعرقلا كل طلب نشاط حتى وإن أوفى كل الشروط القانونيّة حيث تحوّلت ضرورة الإعلان إلى ضرورة التّرخيص، فإن حريّة الإجتماع تبقى محدودة نظرا للتهديد الدّائم بتتبّع المنظّمين بتهمة جنح مختلفة (تشويش الأمن العام، نشر أخبار زائفة، الثلب...). كذلك حريّة النّشر والصّحافة شلّها الفصل 29 من القانون الانتخابي ومرسوم 9 مارس 1956 حول الطّباعة والنّشر والملكية الذي نقّحه قانون 28 أفريل 1975 حيث انقلب شرط إشعار وزارة الدّاخلية بالطبع والتي تمنح وجوبا وصلا في ذلك إلى وصل ترخيص .
ثانيا أن احتكار السّلطة من الحزب الدستوري وتداخله مع جهاز الدّولة منذ الاستقلال، ورسميّا بداية من 1964 ودَوْلَنَة المجتمع وضرب كل الحرّيات التي يضمنها الدّستور أفضى إلى واقع سياسي بعيد كل البعد عن الحداثة وتكريس قيم الجمهوريّة. فباسم الوصاية والتربية والتّوجيه والإرشاد زادت القطيعة بين السّكان والسّياسة كممارسة نشطة وفاعلة ومساهمة في تسيير وتوجيه الحياة العامّة وتحوّل البشر إلى مجرّد ممثّلين صامتين في مسرحيّة تحرّك خيوطها من فوق ومن خارجهم. هل يمكن والحال ذاك نعتهم بالمواطنين والمواطنة تعني أساسا المشاركة الفعلية في اختيار الحاكم ومحاسبته وفي تحديد التوجّهات العامّة للوطن ؟
الجزء الثاني ( صدر ب الحصاد الأسبوعي 11/12/2012)
من جانب آخر هل أنّ الإدارة السّياسيّة لدواليب الدّولة في عهد بورقيبة، كانت تقوم على العقلانيّة والنّجاعة في التسيير وعلى الفاعليّة والمردوديّة وحسن القرار والاختيار واعتماد الكفاءات قبل اعتبارات أخرى حزبية أو فئوية وجهويّة وعائلية أو كانت تعتمد توازنات بين العائلات الكبرى المتنفّذة أو أجنحة متصارعة من الحزب الحاكم؟ هل كانت الدّولة دولة الجميع فعلا ؟ مفتوحة لكلّ المواطنين خاصة في احتلال مواقع سلطة القرار ؟ أم كانت تعتبر ملكا خاصا للحزب ولبورقيبة بالخصوص ؟ هل كانت تخضع الإدارة مثلما هو الشأن على الأقل في عموم الدّول المتقدّمة، لمبدإ الإنسان المناسب في المكان المناسب أي لمبدإ الكفاءة في الإنتداب وشغل الوظائف عبر المناظرات لاختيار الأعوان أو من خلال تدخّلات المتنفّذين في السّلطة أو المجتمع أو مرورا بطرق الارتشاء والمحسوبيّة والعشائريّة والجهويّة والتّمييز حسب الانتماء الحزبي والولاء للحاكم (بورقيبة) ؟ ليست الإجابة صعبة على كلّ من عاش تحت بورقيبة أو درسه.
ثم هل أنّ الدولة كانت تحترم استقلالية المجتمع المدني؟ لأن الإقرار باستقلاليته وحريّة مكوّناته في التنظيم والاشتغال والتفكير، من الشروط المعرّفة للدّولة الحديثة. الإجابة عن هذا التساؤل هيّنة. يكفي أن نعرف مصير المنظمات الجماهيرية في العهد البورقيبي، حيث تمّ تحويلها إلى أدوات تجنيد وتعبئة ومراقبة للمنضوين فيها أو الرّاغبين في الدّخول إليها. كذلك ضربت الحيويّة الدّاخلية لتلك المنظمات حيث انعدمت الديمقراطية في تسييرها وتحديد سياستها بما أنها كلّها محددّة من خارجها أي من قيادة الحزب التي تختار المسؤولين وتسطّر الاتّجاهات فلا نقاشات حرّة داخل تلك المنظمات ولا تصارع للأفكار والاتجاهات ولا احترام لإرادة المنضوين فيها، فأصبحت تلك المنظمات مطيّة للقفز في السّلم الإداري واقتناص المسؤوليات والمواقع، وهي عبارة على قواقع فارغة يعمّرها الانتهازيّون أو المخدوعون ويسود فيها الطّمع أو الخوف .
أيضا هل كانت الدّولة في عهد بورقيبة دولة مؤسسات؟ من العسير الإقرار بذلك. يقول السيّد الطّاهر بلخوجة الوزير السابق، وهو الذي كانت له معاشرة طويلة للسّلطة ولبورقيبة "كان بورقيبة يؤمن بالدّولة بمعناها العميق وبمفهومها العصري والغربي (كذا!) رغم أنّه كان يتمثّلها كثيرا في شخصه جاعلا من رئيس حكومته مجرّد رئيس لديوانه ومنفّذا لسياسته الخاصّة. أن شخصنة الدولة هذا عزّز أكثر بنظام علاقات بين الأشخاص، ومن شأنه أن يدعّم ثنائيّة الدولة – الحزب كل ذلك وراء واجهة مؤسّسية. إنّ هذه الشّخصنة غير المحدودة رسّخت التصرّف الخاص في الدّولة الذي تجسّده تلك الممارسات البترمونياليّة الجديدة وهكذا أصبحت المؤسّسات التي نزعت منها وظيفة الضبط مجرّد رهانات للسّلطة" . فالفصل بين الأشخاص والهياكل التي يعملون بها، يكاد ينعدم ممّا ينزع عن تلك الهياكل صبغتها المؤسّسيّة التي تفترض صفات التجريد واللاّشخصنة والدّوام. عدم احترام النّظام لمؤسّساته أيضا يبرز في المكانة التي كان عليها البرلمان (مجلس الأمّة ثم مجلس النواب) الذي بقي طيلة حكم بورقيبة بلون واحد وتحوّلت وظيفته إلى مجرّد حجرة تسجيل للقوانين التي تتقدّم بها الحكومة حتى أنّه طيلة عشر سنوات تقريبا حتى موفى 1965، لم يتقدّم هذا المجلس إلا بمشاريع ثلاثة قوانين سكتت عليها الحكومة ولم يصوّت إلاّ ضد مشروع قانون واحد . كما أنّ ممارسة الحكم ضربت بعرض الحائط لمبدإ فصل السّلط الذي تقوم عليه الأنظمة الحديثة، حيث لم تحترم مثلا استقلالية القضاء وتحوّلت السّلطة القضائية في عهد بورقيبة إلى مجرّد جهاز من أجهزة السّلطة التنفيذية، كانت قد جنّدت لخدمة ما كان يعتبر "المصلحة الوطنية"، حيث وظّفت السّلطة السياسيّة القضاء لاجتثاث أيّ معارضة أو حتى نقد للتّوجه الرّسمي فكانت تدخّلات السلطة التنفيذية عبر المحاكم السياسيّة الاستثنائية (المحكمة العليا للقضاء ومحكمة أمن الدّولة) دون احترام لمبادئ استقلاليّة القضاء والعدالة ودون اعتبار للإجراءات النافذة آنذاك وذلك في تسمية القضاة والمدّعين العامّين وسير المحاكمات أو احترام حقّ الدّفاع، حيث تعدّدت المحاكمات لتصفية المعارضين في السّبعينات والثمانينات خاصّة . حتى أنّ بعض ضحايا هذه المحاكمات الذين جرّبوا القضاء الاستعماري، لم يخفوا تفضيلهم لهذا القضاء على قضاء بورقيبة و فضّلوا السجون الاستعماريّة على سجون دولة بورقيبة حيث التعذيب و المهانة .
وهكذا أضحت العلاقة بين النّاس والسّلطة ليست علاقة مواطن حرّ مع حاكم شرعي يحدّدها القانون الذي هو سيد الجميع كما تفترضه الحداثة السّياسية بل علاقة راع برعيّته يرى في واجبه نحو النّاس فضلا ويرى النّاس فيه تكرّما ويخافه النّاس ويخشونه ويتوجّس هو من تصرّفاتهم ولم يبق للمحكومين إلاّ الحذر من الوقوع بين يد الحاكم أو الإنفجار في وجهه (والمناسبات عديدة في عهد بورقيبة : مارس 1968، 26 جانفي 1978، 27 جانفي 1980، 3 جانفي 1984...) . فشل النّظام البورقيبي في تكريس الحداثة السياسيّة يبرز كذلك في فشله في غرس قيمها في المجتمع.
3- فشل البورقيبيّة في تحديث الثقافة السياسيّة و تكريس ثقافة الأتباع و التكسّب.
إنّ التكوين السياسي الذي راهن عليه بورقيبة وجنّد له الحزب الحاكم وأجهزة الدّولة والمدرسة والإعلام، لم يفرز عند عامة النّاس و لا حتى النخبة إلاّ عدم الاكتراث وابتذال العمل السّياسي أو المشاركة النفعية في الطقوس السّياسية كالاجتماعات (حضورا أو تصفيقا) أو الاقتراع تفاديا لعقوبة أو طمعا في منفعة. ولم يؤد احتكار وسائل الإعلام وخاصة الرّاديو والتلفزة إلاّ لتسطيح للرأي وخلق اللاّمبالاة والامتثال وتلهية النّاس بتحويلهم عن القضايا الهامّة وضخّهم بحجم ضخم من الفصول والبرامج الرّياضية والألعاب والمسلسلات التلفزية. كما عمد الإعلام البورقيبي إلى الحطّ من شأن التيارات الفكريّة والأشخاص المعارضين ولم يستنكف بورقيبة ذاته من اعتماد نفس الأسلوب . لقد أفضى إذن احتكار الإعلام من السّلطة وتحويله إلى وسيلة تجنيد سياسي وتبليد للذّهن إلى حرمان المواطن من حقّه في الاطلاع على واقع بلده ومجريات الأحداث فيه وهو شرط أساسي في ممارسة المواطنة الواعية، إذ كان في إبداء الرأي ومراقبة الحاكم أو تحديد السّياسات واختيار السّلط النّيابية. هذا الأسلوب في الحكم الذي يعتمد التّسلط وتكميم الحرّيات وتزييف الواقع، أدّى إلى تخريب على المستوى الأخلاقي – قليلا ما يدرس – وقد تفطّن المرحوم أحمد التليلي لذلك ، منذ 1966 ، حينما حذّر من آثار السياسة الاستبدادية لبورقيبة التي في رأيه كانت "تشجّع على انتشار الانتهازيّة والفساد في كل أشكاله وتقضي على رفعة الأخلاق السّياسيّة لدى كامل الشّعب وتفقد النّظام أي اعتبار" كما أن المراقبة السّياسية من الحزب وأجهزة البوليس للمواطنين تغرس فيهم أخلاق الجبن والرّيبة والتّذلل وانعدام الشهامة والتّزلّف لكل من له سلطة ويصحّ عليهم ما كتبه عبد الرّحمان الكواكبي في تأثير الاستبداد على أخلاقيات النّاس: "وقد اتبع النّاس الاستبداد في تسميته النّضج فضولا والغيرة عداوة والشّهامة عتوا والحمية حماقة والرّحمة مرضا، كما جاوره على اعتبار أن النّفاق سياسة والتّحيّل كياسة والدّناءة لطفا والنّذالة دماثة" . هذا الدّمار على المستوى الأخلاقي والنّفسي هو لعمري في تناقض تام مع ما تفرضه أخلاق المواطنة الحقّة من شعور الفرد بالحريّة في وطنه والاعتزاز والأنفة و هو الذي ساهم حتما في أن يحكم تونس ، من بعده ، ضابط أمن جاهل و، لو كان برتبة جنرال، و تتحكم فيها عصابات المافيا و الفساد .
هذه هي البورقيبيّة التي خبرها الشعب التونسي لأكثر من نصف قرن و التي كانت نتيجتها الحتميّة نظام بن علي و تخريب البلاد و العباد و التي يجرأ أتباعها ، حاليّا و على رأسهم العجوز السبسي، على محاولة تسويقها لنا كمنقذ من الضلال و التّيهان في تعدّد الأحزاب والنظريات .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.