بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«العَوْدة» أَوْ عَوْدةُ الفَلاّقة!
قراءة في المجموعة القصصية» العودة « لعبدالجبار المدوري (1 / 2):
نشر في الشعب يوم 27 - 09 - 2008

عدت إلى قراءتها بعد أكثر من أربع سنوات. فوجدتني أستحضر الشخصيات التي كانت قد صارت من معارفي إلاّ أنّي وجدتها بوجه جديد، ووجدت نفس الحكايا أيضا لكن بطعم جديد وتنضح بنكهة أخرى لكأنّ الأقاصيص بالقدم قد تعتّقت وتخمّرت فزادت لذّة على بنّة.
معلوم أنّ حكاية يتموقع موضوعها في الحقل السياسي هي أصعب مراسا عند الإنشاء وأقلّ حظوة عند التقبّل.
ولكنّ «العودة» (1) رفعت التحدّي.
أعيد قراءة نفس الحكايا وكأنّي أعرفها وأجهلها. أذكرها وأنكرها. هل هذه هي الشخصيات التي التقيتها أم هؤلاء أبطال جدد، آخرون؟
صار أولائك أشباحا بعيدة في قاع الذاكرة وبرز هؤلاء على ركح الأحداث أحياء، لحما ودما، يتحركون في همّة ونشاط.
حيّرني هذا الأمر ولكنّي أوعزت ذلك لعوامل شتّى خاصة وأنّي أميل للاعتقاد أنّ وراء كلّ ظاهرة أسباب متعدّدة يمكن تصنيفها وترتيبها... وهنا منها ما يتعلّق بالأثر نفسه ومنها ما يتعلّق بالقارئ ذاته ومنها ما يتعلق بالأحوال والأيام التي يلتقي فيها القارئ بالمقروء، المتقبِّل بالأثر...
على كلّ إنّ كلّ قراءة تظلّ دوما ابتكارا جديدا للأثر الأدبي بل الفنّي بصفة عامة.
ولئن لقِيَتْ مجموعة عبد الجبار المدوري (2) «العودة» يوم ظهرت في الساحة الأدبية استقبالا بهيّا وحظوة لِمَا تميّزت به من صدق في اللهجة وقوّة في المعنى ونبالة في القضية فإنّها تتجلّى اليوم، في عيني نفس القارئ إسهاما قصصيّا مميّزا أكثر بهاء وأقوى معنى وأعرق نبلا لما تبيّن فيها من سلاسة في السرد ومتانة في المبنى وبساطة في الظاهر على عمق في الباطن.
عدت إلى « العودة « أقرأها وأستقرئها.
هي مجموعة عبد الجبار المدّوري القصصصية التي «صدرت» في 2004 خارج مسالك الترخيص والتأشير والرقابة، أي في إطار ما يعرف بأدب الفلاقة. وتتشكل من خمس أقاصيص(3) أولاها أقصوصة «العودة» التي وسمت بعنوانها المجموعة ولا غرابة في ذلك إذ امتدّت على قرابة نصف المجال إضافة إلى تعدد الشخصيات فيها والانزياح الزمني على مدى نصف قرن والامتداد المكاني من البيت الريفي إلى المدينة حيث الجامعة والسجن المتلازمان منذ البداية، بداية التاريخ، وفي تونس يجمعهما شارع واحد: شارع شهداء 9 أفريل 1938، شهداء الحرية. وهل من مطمع في الحرية دون المرور بالمدرستين: مدرسة النضال ومدرسة الأبطال؟
وتكشف أقاصيص عبد الجبّار المدوري رغم بساطتها الظاهرة عن أوجه من الواقع تعاند فيها إرادة الحياة صخر شظف العيش وأمواج الظلام. لذلك جاءت في لغة عربية سهلة لا تخلو من شاعرية ورقّة رغم قساوة الظروف وخشونة الأحوال، كما جاءت مطعّمة ببعض العبارات من اللهجة الدّارجة بالرّيف التونسي بالشمال تحديدا - فانساقت في عفوية وصدق مع الإطار والشخصيات والحكاية. فساهمت اللغة في إرساء واقعية الأقاصيص المعلنة في المضامين.
فأقصوصة «العودة» تنهض مع الأمّ التي استيقظت فجرا تستعدّ لاستقبال ابنها الذي يعود إليها اليوم بعد سنتين قضّاهما في السجن لانخراطه في الأنشطة النضالية الطلابية.
نكتشف معاناة الأمّ: وحدتها وتضحياتها بما تملك (البقرات وبعض الخرفان) من أجل الزيارات بالسجن والقفة...
كما نكتشف العائلة تدريجيا: أخوات غائبات، تزوجن والتحقن بأزواجهنّ بعيدا عن القرية. والأب متوفّى في حادث شغل والخال المختار الذي التحق بالفلاقة ولم يعد منذ أكثر من خمسين سنة...
حكاية واضحة بسيطة وخطية: أمّ تنتظر ابنها ويعود.
ولكن عند القفلة ثمّة حيرة تلوح من وراء الحكاية. هناك أسئلة تطفو على السطح:
العودة؟
عودة من؟
من أين؟
وإلى أين؟
أيّ عودة؟
هل هي عودة المختار الطالب المناضل من السجن إلى أمّه بعد سنتين؟
هذا هو خيط السرد. بهذا حدّثنا الراوي وجعلنا نقف إلى جانب الأمّ ننتظر معها العائد ونفرح بعودته.... لقد شهدنا كلّ ترتيبات الاستقبال منذ أن قامت الأمّ في هذا الصباح الجميل إلى أن فاحت رائحة الكسكسي المطبوخ بسردوك عربي.
وتزداد الفرحة بهجة عندما تزوره سامية، في غفلة من أهلها، وهي الجارة والحبيبة وكاتبة الرسائل المعطّرة التي يحكي رسم حروفها رقص القلب سجين قفص الصدر ويحاكي رعشة الروح وهي تناجي الروح التي تنوح وراء قضبان السجّان وما بين سجين قفص الصدر وأسير قضبان السجن أقفاص العائلة والمجتمع.
نعم هذه هي الحكاية على امتدادها حتّى قرابة النهاية.
نعم هي عودة المختار الطالب المناضل إلى أمّه وحبيبته بعد سنتين قضّاهما في السجن.
هذا ما روى الراوي وما قرأ القارئ.
ولكنّ عبدالجبّار المدّوري خدعنا أو بفنون السرد خادعنا إذ خاتلنا ودسّ في طيّات الحكي مواقف بل إشارات هي نقرات تخز القلب وخزا خفيفا تنبيها للشرّ الداهم فيتجاهلها من يريد ان يعبّ من الفرح بالحرية الهشّة لحظة عجلة، كفراشة الربيع، مع الأمّ في عطر عبّونها البري ممزوجا ببخار الكسكسي الذي يفور ومع الحبيبة بوحا وهمسا فحضنا وبوسا، وعناقا وتقبيلا، يسكر من شذاها استراقا من الزمن قبل ارتداده.
لمّا دفع باب غرفته بعد طول غياب، «رأته (الأمّ) يطيل النظر إلى صورة ممزقة عن عمد فقالت:
- لمّا جاؤوا لتفتيش البيت مزّقوا بعض الصور وفرتوا الخزانة والحقائب وأخذوا بعض الكتب والوثائق.
التفتت ناحية الطابونة وأضافت:
- أمّا الأشياء التي طلبت منّي إخفاءها فهي مردومة.»
يحادث أمّه ويعاين آثار الهجمة ثمّ يقوم بالحفر في المكان المرشوم بطاسة مهملة قرب سطر الهندي. يخرج كيس البلاستيك. يمسح عنه التراب. يفتحه ويعاين محتوياته ثمّ يرجعه إلى مكانه وهو يبتسم لأمّه الواقفة...
- ليبق كلّ شيء مكانه... قد يأتون في أيّ وقت.»
أطلق هذه الفرضية هكذا لتبقى معلّقة في فضاء الفرحة فأحالتها في توّها إلى «ابتسامة متشائمة» وسرعان ما يحاول أن يخفّف عن أمّه وأن يبدّد سحب التوجّس فيقول: «الاحتياط واجب...» تسكت ثمّ تقول كلاما تعرف سلفا أنّه لا يريد سماعه: «... هذا حاكم... آشكون يقدر عليه...»
لقد أحدثت هذه اللقطات الوجيزة المبثوثة على امتداد شريط السرد وخزا شوّش انشراح القلب لدى الأمّ خاصة ولدى مختار بالتأكيد وإن كان مهيّأ لهذا بفضل الثقافة التي اكتسبها من عديد السجون التي زارها حيث تعلّم من المساجين السياسيين...» أنّ : «الخروج من السجن لا يعني نهاية المتاعب.»
مسح على كتفها وقال: «لا تخافي يا أمّي...»
كانت أمّه منهمكة في إعداد العشاء وسمعها تستقبل زائرا...
- سامية جاءت لتسلّم عليك.
تدخل سامية أنيسةُ الأمِّ وحبيبة الابن فتنقشع سحب التوجّس ويزول التوتر ويذهب الكدر وتحلّ أجواء البهجة وتعمّ الفرحة وتنشرح النفس.
لقد رفع حضور سامية كلّ تخوّف وريبة لا لدى الأمّ والابن فحسب بل ولدى القارئ كذلك أوليس هو أيضا معنيا ؟
نعم الفرحة تكتمل الآن.
وجلسوا إلى العشاء وبينما هُمُ «... إذْ سمع سيّارة تمشي ببطء، ثمّ تقف أمام الحوش.»
يعلن رجال البوليس عن أنفسهم في قصيدة أحمد فؤاد نجم(4) «عزّة»(5) لمّا داهموه وهو في حلم جميل مع الحبيبة:
«احنا ناس مكلفين
تيجي سالم موش ح تتعب
واحنا طبعا معذورين.»
وإذا بالعودة عودة المختار الطالب السجين المسرّح اليوم بعد سنتين سجنا هي عودته إلى.. سجنه وما دفّأ بطنه بالكسكسي الشهي وبقي الديك متربّعا على الجفنة.
«أرجوكم يا أولادي... وسعوا بالكم معه... اتركوه يبيت الليلة فقط... حتّى عشاه لم يتممه.»
ويُنْتَزَعُ عنوة من حضن الأمّ وعناق الحبيبة لأنّه رفض المراقبة الإدارية التي لم يقض بها قاض وعاد مباشرة إلى داره رغم تنبيههم وتهديدهم...
ورغم صياحه واحتجاجه ورفضه : «لن أخرج. هذا ظلم ! هذه أمور غير قانونية.»، حشروه في السيارة والأجوار يطلّون ولسان حالهم يقول عاجزا: « هكذا شاءت الأقدار»
هكذا شاءت الأقدار!
أوليست إرادة الحياة أقوى من إرادة الأقدار لأنّها من إرادة الشعب؟
«جاءت عودته (الابن) كخيط من ضياء انبثق من عمق نثار المعاناة والانتظار... تداخلت الشخصيتان، المختار الأخ والمختار الابن، والتحم الماضي بالحاضر... «
يا للوعة الأمّ التي لم تستوعب الموقف.
وما أشبه موقفها بموقف «بيلاجي»(6) أمّ «بول» الشاب المناضل في رائعة مكسيم قوركي(7) رواية «الأم» وكذلك موقف الأمّ الصينية التي رسمتها الأديبة الأمريكية بارل باك(8) في روايتها الشهيرة التي تحمل نفس العنوان «الأمّ» .
عديدات هنّ الأمّهات اللواتي عشن مواقف شبيهة في ثورات كلّ الشعوب في كلّ الأوطان. وعديدات بل يصعب، إحصاؤهنّ، أمّهات هذا البلد الأمين اللواتي أثقلت كواهلهنّ القفّة وأرهقتهنّ وسائل النقل وهنّ يلاحقن أكبادهنّ من سجن إلى سجن عبر خارطة الوطن.
ما أجمل أمّهات الأبطال !لأنّ البطولة من طينتهنّ، عركنها بأيديهنّ، ومنها جبلن الكائن-الحرّ-الإنسان وفطرن عقله على البيان وجعلن له عزيمة فولاذ أقوى من الصوّان ألم تر كيف أمضى رجب (9)، يوم ماتت أمّه، على ورقة السجّان؟ ...
أمّا في أمّ الشهيد فقد قال الشاعر وغنّى الفنّان(10) :
أجمل الأمّهات التي انتظرت ابنها وعاد
عاد مستشهدا!
فبكت دمعتين ووردة
ولم تنزو في ثياب الحداد.
منذ الصباح، كانت تتذكّر أخاها المختار. ها هي تعيش ثانية تلك اللوعة التي حرقتها منذ نصف قرن لمّا تمّ توقيف النضال المسلّح ضدّ المستعمر ودعي الفلاقة إلى النزول من الجبال وتسليم السلاح إلى «لجان» لم ينزل مختار من الجبل ولم يسلم سلاحه وبعد مدّة جاء الخبر أنّه التحق بالثورة الجزائرية. منذ تلك الأيام البعيدة بعدّ الليالي، الحيّة بوجع الليالي، والأخت، التي كانت تتصل بالثوّار في الأحراش للتموين ونقل الأخبار، لا تزال تنتظر عودة أخيها وتتخيّل طلّته من وراء التلّة. وتتتالى الأيّام والليالي وتصير الأخت أمّا. والأمّ تنتظر اليوم ابنها الطالب العائد من السجن. ولتشابه الموقفين استيقظ الانتظار الذي ظلّ دفينا في القلب كالجمرة في الرماد وراح يجول نشطا في أروقة اللاوعي ويطلّ على العائد : هو المختار!
ولمّا لم تتمّ العودة وتعود به سيّارة البوليس إلى من حيث أتى تطفو صورة الأخ على السطح وتطغى فتسيطر على الوعي. تستخرج الأمّ البندقية القديمة، تلبس القشّابية، تتمنطق عليها بحزام الخراطيش وتخرج إلى الأحراش لقد «... رأت المختار وقد عاد إليها بعد خمسين عاما، كاسح الرأس، صعب المراس، رافضا للذلّ والمهانة. وعازما على مواصلة النضال.»
وإذا بالعودة هي عودة المختار الخال المناضل الوطني الذي رفع سلاحه في وجه المستعمر...
هكذا إذن يتبيّن أنّ النصّ مستويات وأنّ القراءة قراءات وأنّ العودة عودات.
هي:
عودة مختار الطالب المناضل من السجن
وهي أيضا:
عودة مختار الطالب المناضل إلى السجن
كما هي:
عودة مختار الخال المناضل من دروب الفلاقة
وهي في نهاية الأمر:
عود على بدء.
إنّ «العودة»، العودة المنشودة، بلسم للجرح القديم الذي لم يندمل وخطوة على الدرب الجديد الذي لم يكتمل.
فمرجع مأساة الأم ومعاناة مختار الابن أنّ المهمّة الأساس أيّام مختار الخال لم تنجز بالتمام والكمال لذلك لم يسلّم السلاح ولم ينزل من الجبال...
لذا يمكن أن نقول أنّ مختار الخال عاد يوم دخل مختار الابن معترك النضال وطرق باب السجن، يومها، عاد مختار الخال، مختار العنيد مختار كاسح الراس،،، مختار رمز النضال، نعم مختار الرمز، الفكرة، الأسطورة، عاد في مختار الابن، أولم يسمّ باسمه لاسترجاعه، لاستحضاره ليبعث من جديد؟ كلّ الشعوب تحيي أبطالها وتخلد ذكراهم بإطلاق أسمائهم على المواليد الجدد.
فأقصوصة «العودة» تدور أحداثها في فترة زمنية محدّدة ووجيزة هي ساعات لا غير، يوم تقضيه الأمّ في الانتظار والاستعداد حتّى وقت العشاء. ولكنّ الحكاية تفيض على ظرفها الزمني المحدّد وتنزاح إلى سنين بعيدة، إلى نصف قرن مضى، هي سنوات من العمر مضت ولكنّها عن النفس ما انفصلت فهي بحاضر ما يجري موصولة ومختار الطالب العنيد ليس إلاّ سليل مختار الفلاق الشديد، فالابن ليس إلاّ صورة من الخال وما يحصل اليوم ليس من قبيل تلك القولة الممجوجة : «التاريخ يعيد نفسه» بل في التاريخ نظر وتحقيق (11) وبه شرح وتفسير لما تطرَحُه الأيام من ثمر مرير.
تعلّل الأم موقف ابنها «جاء الخالو مختار راسو صحيح».
الثقافة الشعبية تعترف للأمّ وللخال بدورهما في تربية الأجيال وتنشئة الأبطال «ثلثين للخال حاصل» هكذا قانون الوراثة عند شعبنا الأبي : الأمّ هي الأصل والخال هو القدوة لذلك سمعت يوما «فلاقا» يقسم ب: «حليب أمّهاتنا» .
ومن لا يزال يراوده شكّ في هذا المضمار وينكر ما للأمّ من دور...
عفوا سوف أبدّل صيغة القول لأنّه لا أحد ينكر ما للأمّ من دور بل الكل يضعون الجنّة تحت أقدامها! أليس كذلك؟ ولكن ما هو الرأي السائد في المرأة؟ في ثقافتنا التقليدية نقدّس الأم ونهين المرأة فالأولى ملاك والثانية إبليس وبينهما ثمّة من البون ما بين الجنّة والنار!
إذن أعود فأقول:
ومن لا يزال يراوده شكّ في هذا المضمار وينكر ما للمرأة من دور ويتموقع وراء صورة الأب التي تخدم بالأساس ثقافة المجتمع الذكوري قبل أيّ شيء آخر فليذكر أنّ المرأة كانت دوما حارسة النار، نار البيت ونار المعرفة ونار الثورة.
الهوامش
(1) العودة هي مجموعة قصصية لعبد الجبار المدوري نشرت وتوزعت في 2004 على طريقة « الفلاقة» أي خارج المسالك المألوفة لتجنّب حجزها ومنعها.
(2) عبدالجبار المدوري قاصّ له إلى جانب مجموعة «العودة» روايتان «مناضل رغم أنفه «و «أحلام هاربة « ثمّ هو مناضل سياسي في أوقات فراغه.
(3) أقاصيص العودة الخمس هي : - 1- العودة : نشرت مختصرة في «صوت الشعب» 1996النزيف : كتبت في 2000 وتنشر لأوّل مرّة 3 - قضية حنان : كتبت ونشرت في «صوت الشعب» جريدة «الوحدة» سنة 1994 قبور الثلج : نشرت بجريدة «الشعب «سنة 2001 اختفاء زبراط : كتبت في 2002، وتنشر لأوّل مرّة.
(4) أحمد فؤاد نجم هو الشاعر التقدّمي المصري رفيق درب الفنّان الشيخ إمام عيسى...
(5) عزّة» :عنوان لقصيدة لنجم لحّنها وغنّاها الشيخ إمام وعزّة في الثقافة الشعبية التقدمية في مصر يرمز بها للحرية. وتصوّر القصيدة وتحكي عملية إيقاف الشاعر ورفيقه، وتتمّ المداهمة والشاعر يحلم بحبيبته.. «عوّة»! .
« (6)بيلاجي» هي شخصية روائية شهيرة تصوّر معاناة المرأة الشعبية وعذاب أمّ مناضل يتمّ إيقافه فتتحمّل وتصمد رغم القهر... لذالك كان عنوان الرواية: «الأمّ» وهي من روائع الأدب العالمي ومن تأليف واحد من أبرز روّاد فنّ الرواية بروسيا وفي العالمّ: مكسيم قوركي.
(7) مكسيم قوركي:(1868-1936) هو أديب روسي يعتبر من مؤسسي الواقعية الاشتراكية في الأدب. وهو مثقف ملتزم بالدفاع عن الثورة. عصامي عاش طفولة فقيرة. كوّنته مصاعب الحيلة. مرّ بالعمل الصحفي وسريعا ما أصبح أديبا مشهورا. صاحب أقاصيص رائعة تصوّر بؤساء روسي الأعماق (1998). وله أيصا في نفس المضمار نصّ مسرحي شهيرصدر في 1902 (les bas fonds) أمّا أشهر رواياته فهي طبعا رواة «اللأم» وقد نشرت في 1907. كما ألّف سيرة ذاتية ثرية جدّا بتجارب حياة عسيرة ولكن رائعة بفضل الصراع المرير من أجل التمسك بالحياة. وقد ظهرت تباعا في ثلاثة أجزاء : 1) 1914 : الطفولة. 2)1915: الشباب. 3) 1923 : جمعياتي.
(8) بيرل باك جائزة نوبل للآداب 1938 دخلت الصين وهي لا تزال رضيعا وعمرها ثلاثة أشهر. كان والداها يشتغلان في الدعوة المسيحية. تعلمت اللغة الصينية لكنها درست بجامعة «فيرجينيا» وتخرجت منها وعادت إلى الصبن سنة 1917 صحبة زوجها «جون باك» المهندس الزراعي. ثمّ عادت إلى أمركا بسبب اضطراب الأحوال في الصين... في 1930 ظهر أوّل كتاب لها وهو مستوحى من الصين: رياح الشرق، رياح الغرب. وفي 1931 صدر لها «أرض صينية» فلاقى نجاحا كبيرا وانتشارا هائلا.وهي أوّل امرأة تنال جائزة «بوليتزر»سنة 1932. وفي نفس السنة تتواصل هذه الرواية في رواية ثانية تحا عنوان: ابن وانغ لونغ». ويظهر الجزء الأخير لهذه الثلاثية سنة: 1935 تحت عنوان: العائلة المبعثرة. توفيت بارل باك سنة 1973.
(9) رجب: شخصية شهيرة في الأدب العربي وهو بطل «شرق المتوسط»، رائعة عبد الرحمان منيف، الرواية التي تصوّر صمود سجين سياسي في أحد البلدان العربية (شرق المتوسط) ثمّ انهياره بعد وفاة أمّه وبقائه على اتصال بأخته أنيسة... وقد واصل عبد الرحمان منيف في روايته الموالية «الآن وهنا» طرح نفس الموضوع : الحرية في راهن البلاد العربية.
(10) الشاعر هو محمود درويش والفنّان هو مارسيل خليفة.
(11) التاريخ نظر وتحقيق : قولة شهيرة بها أسّس ابن خلدون لعلم التاريخ في المقدّمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.