رسميًا: مطار طبرقة يستقبل أول رحلة دولية بعد ركود طويل    إلى حدود 15 جوان: تجميع حوالي 3.51 مليون قنطار من الحبوب    الشهيلي يبلغ ذروته... وأمطار مرتقبة تُنعش بعض المناطق!    6 سنوات سجناً للنائب السابق وليد جلاد في قضية فساد مالي وإداري    فحوى لقاء سعيّد بوزيري الشؤون الاجتماعية وتكنولوجيات الاتصال    ‌الجيش الإسرائيلي: قتلنا رئيس أركان الحرب الجديد في إيران علي شادماني    ارتفاع أسعار النفط وسط تصاعد المخاوف من اضطراب الإمدادات    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي ينهزم أمام نادي فلامينغو البرازيلي    رونالدو يهدي ترامب قميصا يحمل 'رسالة خاصة'عن الحرب    سعيّد يؤكد لدى استقباله رئيسة الحكومة: لا أحد فوق المساءلة والقانون    طقس اليوم: خلايا رعية محلية مصحوبة ببعض الأمطار بهذه المناطق    كيف سيكون طقس اليوم الثلاثاء ؟    وزير أملاك الدولة يعلن عن الانطلاق في إعداد المخطط التنموي للفترة الممتدة بين 2026-2030    ملتقى تونس الدولي للبارا العاب القوى (اليوم الاول) : العناصر التونسية تحرز 9 ميداليات من بينها 5 ذهبيات    هجوم إيراني جديد على تل أبيب وأميركا تنفي المشاركة بالقتال    السفارة الأمريكية تعلن تعليق عملها وتعذر إجلاء مواطنيها من إسرائيل    مطار طبرقة عين دراهم الدولي يستأنف نشاطه الجوي    ماكرون.. ترامب أبلغ زعماء مجموعة السبع بوجود مناقشات للتوصل إلى وقف إطلاق نار بين إسرائيل وإيران    فوكس نيوز: ترامب طلب من مجلس الأمن القومي الاستعداد في غرفة العمليات    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية لفريق فلامينغو في مواجهة الترجي    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية للترجي الرياضي في مواجهة فلامينغو    القيروان: إزالة توصيلات عشوائية على الشبكة المائية في الشبيكة    عاجل: أمر مفاجئ من ترامب: على الجميع إخلاء طهران فورا    كأس العالم للأندية: تعادل مثير بين البوكا وبنفيكا    بعد تسجيل 121 حريقا في 15 يوما.. بن الشيخ يشدد على ضرورة حماية المحاصيل والغابات    انطلاق عملية التدقيق الخارجي لتجديد شهادة الجودة بوزارة التجهيز والإسكان    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    في اصدار جديد للكاتب والصحفي محمود حرشاني .. مجموعة من القصص الجديدة الموجهة للاطفال واليافعين    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    أخبار الحكومة    بورصة: تعليق تداول اسهم الشركة العقارية التونسية السعودية ابتداء من حصّة الإثنين    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    إسناد العلامة التونسية المميزة للجودة لإنتاج مصبر الهريسة    تجديد انتخاب ممثل تونس بالمجلس الاستشاري لاتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لليونسكو    تونس تدعو إلى شراكة صحّية إفريقية قائمة على التمويل الذاتي والتصنيع المحلي    نحو إحداث مرصد وطني لإزالة الكربون الصناعي    جندوبة: اجلاء نحو 30 ألف قنطار من الحبوب منذ انطلاق موسم الحصاد    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    في قضية ارتشاء وتدليس: تأجيل محاكمة الطيب راشد    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    عاجل/ هذه حصيلة قتلى الكيان الصهيوني جراء القصف الايراني..    عاجل/ هذا ما قرره القضاء في حق سنية الدهماني..    دورة المنستير للتنس: معز الشرقي يفوز على عزيز دوقاز ويحر اللقب    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    فجر الثلاثاء : الترجي يواجه فلامينغو وتشيلسي يصطدم بلوس أنجلوس: إليك المواعيد !    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسألة الاقتصادية في الفكر التونسي الحديث خلال الثلث الأوّل من القرن العشرين
تأليف: الحسين فالحي تقديم: ابراهيم العثماني
نشر في الشعب يوم 29 - 11 - 2008

قد تكون بعض الفترات الزمنية حاسمة في تاريخ الشعوب، محدّدة لهويتها ومؤثّرة في مساراتها اللاحقة. وقد لا نجافي الحقيقة ان قلنا انّ النهضة التي شهدها الثلث الأوّل من القرن العشرين مثلث الارهاصات الأولى التي رسمت ملامح المجتمع التونسي المعاصر، ووسمته بميسم مخصوص، وميّزته عن جلّ المجتمعات العربية وأهّلته ليكون مجتمعا حداثيا يقطع سلسلة الجمود والتقليد والرّتابة، وينهل من ثقافة المحتلّ الوافدة ويتمثّل عناصرها الايجابية ويصهرها في بوتقة الموروث ويُوظفها لتغيير ملامحه الثابتة منذ قرون. لقد كانت هذه النهضة متعدّدة الأوجه لم يعرف تاريخ المجتمع التونسي الحديث مثيلا لها.
فهي سياسية واجتماعية وفكرية وأدبية. ففي هذه الفترة بالذات تأسّست الأحزاب (الحزب الحر الدستوري 1920، الفرع الجامعي الشيوعي بتونس 1921 والحزب الاصلاحي 1921) والنقابات (جامعة عموم العملة التونسية 1924)، وفي هذه الفترة شهدت البلاد معركة السفور والحجاب من خلال كتابات الطاهر الحداد والردود التي تصدّت لآرائه التي تضمنها مؤلفه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» (1930)، وظهرت أولى الكتابات المتصلة بالفكر العمالي («العمّال التونسيون وظهور الحركة النقابية في تونس» للطاهر الحدّاد سنة 1927)، وألف عبد العزيز الثعالبي كتابا مضمونه وثيق الصلة بمقولات المجتمع المدني (تونس الشهيدة 1920)، وفي هذه العشرية تجلّت ملامح حركة أدبية ونقدية تناهض التقليد وتدعو إلى التجديد قادها أبو القاسم الشابي ومحمد الحليوي وزين العابدين السنوسي.
وقد لفتت فترة الثلاثينيات انتباه الدّارسين والباحثين فأولوها عناية خاصّة وركّزوا على أهمّ أحداثها ومفاصلها. وهذا المبحث الموسم ب «» لصاحبه الحسين فالحي (الحسين حي الدين سابقا) يعدّ لبنة أخرى تنضاف إلى الدّراسات الجادّة التي تناولت هذه الفترة بالدّرس والتحليل ويعتبر مبحثا يكشف وجها آخر من وجوه الحياة في هذه المرحلة الثريّة والخصبة ويُسلّط الضوء على جانب لم تُفرد له بحوث مخصوصة.
إنّ تقديم هذا الكتاب وتلخيص أهمّ محتوياته والاتيان على مجمل الاشكاليات التي أثارها ليس بالأمر اليسير. فالعمل بحث مستفيض وشرح مفصّل لكيفية تناول المفكرين التونسيين المسألة الاقتصادية في الثلاثينيات، وابراز لأهم الاتجاهات التي ظهرت في تلك الفترة، وتحليل لآليات اشتغالها. ونحن نعتقد جازم الاعتقاد أنّ أيّ تقديم له لن يفي بالحاجة مهما اجتهد صاحبه لذلك سنحاول أن نلمّ بأهمّ مكوناته.
قسّم الباحث أطروحته إلى مقدّمة وبابين كبيرين وخاتمة. وتضمّن الباب الأوّل تمهيدا وثلاثة فصول في حين تكوّن الباب الثاني من تمهيد وثلاثة فصول وخلاصة التقييم. وينتهي هذا المبحث بخاتمة تلخّص أهمّ الاستنتاجات التي توصّل إليها الباحث ومسرد للمصادر والمراجع وثبت للفهرس العام.
اشتملت المقدّمة على تأطير للموضوع دقيق وإشارة إلى أهمية الاقتصاد في حياة الشعوب ودوره في بروز ظاهرة الاستعمار وتحويل البلدان الرأسمالية إلى قوى امبريالية وإسهامه في تقسيم العالم إلى بلدان ضعيفة وبلدان قويّة، ومن ثمّ تؤكّد هذه المقدّمة الخيط الذي ينتظم هذا المبحث ويوجّه القارئ نحو البؤرة المركزية التي يتمحور حولها هذا العمل. ثمّ علّل الأستاذ فالحي اختياره هذه المسألة بما لاحظه «من نقص في الاهتمام لدى الباحثين بالفكر التونسي ذي الصلة بالقضايا الاقتصادية في الثلث الأول من القرن العشرين» (ص 16). وقد استعرض مجموعة من المؤلفات تعرّضت لهذه القضية بشكل عرضي مثل أعمال الشاذلي خير اللّه والبشير التليلي.
أمّا التمهيد فقد تعلّق بدور الظرفية التاريخية في نشوء بواكير وعي اقتصادي لدى النخبة المثقفة التونسية حيث كانت آراؤها الاقتصادية رد فعل على حضور الاقتصاد الرأسمالي الفرنسي. وتعتبر بقيّة عناصر التمهيد بمثابة قسم نظري تطرّق فيه الباحث الى الحديث عن تحول الرأسمالية إلى امبريالية وتوسّع الرأسمال الفرنسي وبحثه عن أسواق وتوقف عند مقولة انتاج الثروة وعرّج على طبيعة الفكر الاقتصادي ما قبل الكلاسيكي والمركنتيلية والفزيوقراطية بالاعتماد على أمهات الكتب التي تناولت هذه المفاهيم بالدرس والتحليل.
وما ان انتهى الباحث من التمهيد حتّى خلص إلى الحديث، في الفصل الأول الموسوم ب «أزمة المجتمع التونسي في ظلّ الاحتلال» عن سمات هذه الأزمة فخرج بجملة من الاستنتاجات منها أنّ أساس السياسة الاستعمارية هو تمييز المستعمرين وتفويقهم على المستعمرين وتغذية ذلك باستمرار حفاظا على شروط الاستغلال لتحقيق الربح الأقصى على حساب السكان الأصليين وتعميق الهوة بين الجنسين. وفي هذا الوضع المختل الموازين حصل المستوطنون على ملكيات عقارية كبيرة في حين جُرّد التونسيون من ملكيتهم، وقد دعّم المستعمر الفرنسي وجوده بتكريس ايديولوجية عنصرية قائمة على تضخيم شخصية المستعمر من ناحية والحط من شأن المستعمر من ناحية أخرى وتهويل عيوبه. وقد أفرز هذا الوضع طبقة عاملة ضعيفة ومستغلة ومضطهدة ومحرومة من جميع الحقوق فعمّ الاملاق والاحتياج، واستعان الباحث بشواهد من كتابات الطاهر الحدّاد وعبد الجليل الزاوش لتصوير هذا الوضع المزري وابراز الفوارق المشطة بين طبقاته الثلاث: طبقة المخزن المتألفة من الأسرة الحاكمة ورجال السلطة والوزراء والقياد والمقرّبين من البلاط، وطبقة البورجوازية المتكونة من التجار والصناع وملاك الأرض الكبار والتي تضرّرت من السياسة الاستعمارية بعد سنة 1881. أمّا طبقة الأجراء فقد عاشت ظروفا قاسية جدّا: فالأجر زهيد والخصاصة والحرمان والكفاف كان أهمّ ما يميّز حياتها. وهكذا انقسم المجتمع التونسي إلى قسمين كبيرين: جالية فرنسية وأوروبية تنعم برغد العيش وسكان أصليين حرموا من أبسط مقومات الحياة وجردوا من ممتلكاتهم واستحالوا عملة لدى المستعمرين.
وقد قاد هذا الوضع النخبة التونسية المثقفة إلى البحث في أسباب الانحطاط المادي وتقديم الوصفة المناسبة لتخطّي دائرة الخطر المحدق بالمجتمع. لذا خصّ الباحث هذا الوضع بفصل خاص سماه «أسباب تدني نصيب التونسيين من الثروة في نظر المفكرين التونسيين». وقد قسم الاسباب إلى نوعين: أسباب داخلية وأسباب خارجية. ومن خلال استعراض مواقف المفكرين التونسيين بدت وجهات نظرهم متباينة أحيانا لذا وجدنا الأستاذ فالحي يعرض هذه المواقف ويقارن بينها ويبدي رأيه فيها كلّما كانت غير مقنعة. فمحمد صالح مزالي مثلا يرى أنّ تأخر التونسيين اقتصادي ومعزول عن السياسة في حين يؤكد علي باش حامبه دور السياسة الاستعمارية في خراب الفلاح والصانع والتاجر التونسيين بعد سنة 1881.
وقد بيّن هؤلاء المفكرون أنّ من أسباب التدني كذلك تأخر وسائل العمل وسيادة رأس المال الصغير وبقاء أملاك شاسعة بورا، وتنضاف إلى هذه الأسباب عوامل أخرى اجتماعية وفكرية وعقدية فالتونسي انسان محافظ تنقصه الجرأة ويخشى المجازفة باستثمار ثروته خوفا عليها من الضياع والتّلف، كما أنّه عرف بأنانيته وحبّ الاستغلال الفردي ونفوره من التعاون. وهناك سبب عقدي يتمثّل في منع الاسلام القرض بفائدة فكان التونسي يفضّل صيغة الكنز على ايداع الأموال في البنوك تجنّبا لشبهة الرّبا المحرّم شرعا.
كما لاحظ هؤلاء المفكرون أنّ الصناعات التونسية عبارة عن حرف يتعاطاها أصحابها في محال ضيّقة ولكلّ صنف سوقه الخاصّة، وهذا النظام الصناعي تقليدي، مغلق، يعيد انتاج نفسه باستمرار، وعاجز عن افراز تقنيات عمل أرقى ويكرّسه تيار معارض لكلّ تحديث.
وهكذا يثبت هؤلاء المفكرون أنّ للتخلّف الاقتصادي أسبابا كثيرة منها انتشار آفة الجهل وانحسار دور العقل والميل إلى الربح السريع، ويدعم كل ذلك تأخّر المؤسستين السياسية والعدلية الذي يشلّ النشاط الانتاجي والاقتصادي ويجعل البون شاسعا بين أساليب الانتاج في تونس وأساليب الانتاج في فرنسا. وفي الحقيقة استقطبت مسألة الانتاج والتوزيع اهتمام هذه النخبة المثقفة، وقد رصد الباحث ثلاثة اتجاهات كبرى تطرّقت إلى هذه المسألة بشكل مستفيض:
الاتجاه الليبرالي:
ويمثّله عبد الجليل الزّاوش ومحمد صالح مزالي وحسن حسني عبد الوهاب، وقد لاحظ الباحث أنّهم أعطوا الأولوية لنهج اقتصادي يقترب من النهج الرأسمالي ويقوم على حرية التملّك وحرية الاستغلال وحرية الاستهلاك لأنّهم لاحظوا أنّ الأسلوب الانتاجي الرأسمالي تفوّق على الأساليب السابقة، وأكّدوا أهمية رأس المال ودوره في انتاج الثروة، وركّزوا على ضرورة الأخذ بالتقنيات وأساليب العمل العصرية على النحو المعمول به في أوروبا وأمريكا (ص 193). ولئن تبنّى أصحاب هذا الاتجاه نهجا للثروة يقترب كثيرا من النهج الرأسمالي الليبرالي فإنّ توزيع الثروة لم يتم الخوض فيه الاّ لِمَامًا. وحسن حسني عبد الوهاب هو المفكر الوحيد الذي تبنّى صراحة توزيع الثروة على الطريقة الرأسمالية. ويعتبر مؤلفه «قواعد علم الاقتصاد» مختصرا في علم الاقتصاد السياسي (ص 199) الاّ أنّ مرجعية هذا الاتجاه لم تكن أوروبية فحسب فالتأثير الاسلامي لم يكن غائبا لدى أصحاب هذا الاتجاه، من ذلك أنّ مزالي ذهب إلى حد اعفاء القرض الاستهلاكي من الفائض، مراعاة لروح الرحمة في الاسلام، بينما هو أوجبه على القرض الاستثماري (ص 131). وهكذا توزعت أصول منهج ممثّلي هذا الاتجاه بين مرجعيتين: مرجعية ذات منزع رأسمالي ليبرالي بحكم ثقافتهم الأوروبية وانبهارهم بنتائج الاقتصاد الرأسمالي الغربي المتفوق في أوروبا والمشع على العالم، ومرجعية اسلامية بحكم انتمائههم الحضاري العربي الاسلامي. لذا كانوا يستدلّون بآيات القرآن في الدفاع عن مشروعهم كما كانوا متأثرين بخير الدين يرجعون الى كتابه «أقوم المسالك» كلّما اقتضى الأمر ذلك.
أمّا الاتجاه الثاني فيقف على طرف النقيض ويمثله الشيوعيون.
الاتجاه الاشتراكي:
يمثّل هذا الاتجاه الفرع الجامعي الشيوعي بتونس في أوائل العشرينيات، وقد أولى شيوعيو العشرينيات اهتماما خاصا للجوانب الاقتصادية وعبّروا عن موقفهم من الموجود وقدموا البدائل التي بدت دعائية لا عملية غلب عليها طابع استشرافي يحيل على المستقبل (ص 240).
إلاّ أنّهم أدركوا أنّ التحرّر الاقتصادي في ظلّ الهيمنة السياسية الفرنسية أمر مستحيل لذا أعطوا الأولوية للتحرير السياسي. وقد تميّزت النواة الشيوعية الأولى بسمتين: سمة خصوصية وسمة عامة، فالسمة الخصوصية مستمدة من خصوصيات الواقع التونسي المتمثلة في اقتصاد متخلّف خاضع لسلطة استعمارية متفوقة على جميع المستويات. أمّا السمة العامة فتتجلّى في أنّ الأفكار الشيوعية مثلت امتدادا للأطروحات التي راجت في الغرب وانتقلت عن طريق الجاليات الى البلدان المستعمرة لذا واجهت الأطروحات الشيوعية واقعا وتناقضات تختلف عن واقع وتناقضات البلدان التي نشأت فيها، وهذه الملابسات اثرت في خطاب الشيوعيين بتونس وتوجهاتهم العامة وفرضت عليهم تكييف فكرهم مع مقتضيات الواقع الجديد وملابساته. أمّا البدائل التي اقترحوها فتتمثّل في عدم توزيع الأراضي على ساكني الأرياف من التونسيين لعدم وجود ضمانة كافية لنجاح الفلاح في استغلال الأرض بصفة فردية مادامت تعوزه وسائل الاستغلال العصرية وبين هذا الاتجاه وذاك برز اتجاه ثالث:
الاتجاه الوسطي:
هو اتجاه ثالث ينزع منزعا وسطا بين الرأسمالية والاشتراكية ويمثله الطاهر الحداد. وقد اعتمد الباحث كتابي «العمّال التونسيون وظهور الحركة النقابية» و»امرأتنا في الشريعة والمجتمع» لتحديد سمات هذا الاتجاه. وقد قاده النظر والتمحيص الى الخروج بجملة من الاستنتاجات منها أنّ الطاهر الحداد ليس كاتبا اقتصاديا بقدر ماهو كاتب اجتماعي رغم وعيه لأهمية العامل الاقتصادي وتأثيره الايجابي والسلبي في حياة الناس. وقد اهتمّ بإنتاج الثروة لأنّه لاحظ ضعف انتاج التونسيين وانتشار المجاعات والأوبئة وتفشي مشاهد البؤس والاملاق واستنتج أنّ الأزمة الاقتصادية الخانقة لها أسباب موضوعية وذاتية فالاستعمار الفرنسي جرّد التونسيين من ممتلكاتهم وحوّل المالكين إلى عملة في أراضيهم عند الأجانب وحكم عليهم بالبطالة. أمّا العوامل الذاتية فهي كثيرة ومتنوّعة ومتفاعلة وتتمثّل في طبيعة المجتمع التونسي والحالة الفكرية العامة بالبلاد والذهنيات السائدة. فالجهل مخيّم على النفوس والعقول خاملة والعادات سيئة، والتونسيون جاهلون بأسباب اكتساب الرزق وتنمية الثروة وعاجزون عن مجاراة تيار التقدم الاقتصادي. فقد غلبت عليهم الاستكانة والسلبية والايمان بقدرية حمقاء وتملّكتهم الأنانية وحبّ الاستغلال الفردي. وأمام هذا الوضع اقترح الطاهر الحداد تطوير رأس المال وذلك بحسن التصرف في الموجود والكفّ عن استهلاكه استهلاكا غير منتج وتعويد الناس فضيلة التوفير، ودعا إلى التعاون بين المالكين ونبذ فكرة التحاسد كما حثّ على التعاون بدلا من الاقراض. وناهض علاقات العمل التقليدية السائدة في الزراعة والصناعة والقائمة على منطق الاكراه والاستغلال ما قبل الرأسماليين المتوحشين. ومن ثمّ تجلى اتجاه الطاهر الحداد فهو يدين علاقات العمل التي يكرّسها رأس المال الكبير كما أنّه يرفض الاشتراكية لأنّها تكرس التناحر الطبقي وتعمل علي تغذيته وتأجيجه ولا تناسب حال البلاد التونسية مع ما هي عليه من فقر، ويقترح بديلا لهذا وذاك علاقات عمل تقوم على التآزر والتضامن بين رأس المال والعمل أي شراكة انتاجية. ويتوقف تحقيق هذا البديل على توفر عناصر أساسية. فالتربية والتعليم شرطان أساسيان لا غنى عنهما لتحقيق نهوض حقيقي في تونس. وينادي الحداد بتعليم مهني صناعي لتحسين المردود الاقتصادي واشراك المرأة في النهضة المنشودة ومساهمتها في شؤون بيتها ومساعدة زوجها على مواجهة أعباء الحياة. تلك هي خصائص وسطية الطاهر الحداد، ومن الرّاجح أنّها وسطية ذات أصول دينية اسلامية لأنّ مفهوم المجتمع الوسط اقتصاديا واجتماعيا مفهوم اسلامي. وبذلك يختم الباحث عمله ثمّ يذكّر بأهم الاستنتاجات التي انتهى إليها.
وهكذا نتبيّن انّ المسألة الاقتصادية، على عسرها وحاجتها الى أهل الاختصاص، كانت مشغلا من مشاغل المفكرين التونسيين في الثلاثينيات وموضوعا مطروحا للبحث والنقاش، ومن ثمّ نستطيع أن نقول انّ القضايا التي طرحت في تلك الفترة طالت كل المجالات ممّا يؤكد الحركية التي ميزت أهل الفكر والثقافة في الثلاثينيات وقيمة الجدل في حياة الشعوب ودوره في تطوير وعيها وشحذ هممها.
يخرج المطلع على البحث بجملة من الملاحظات. فقد بدا الأستاذ الحسين فالحي متمثلا المسألة من كل جوانبها، مطلعا على المباحث المتصلة بموضوعه، وقد اتبع منهجا قوامه التحليل الملموس للواقع الملموس وتنزيل الظاهرة الاقتصادية في اطارها التاريخي بعيدا عن التهويمات المثالية والاستنتاجات التعسفية. فكانت فوائد البحث جمّة. الاّ أنّ كلّ هذه المزايا لا تحجب عنّا بعض الهنات التي تسرّبت الى العمل حسب اعتقادنا:
1 طول المقدمة وتضمنها شرحا لبعض المفاهيم وكان من المفروض افراد هذه المفاهيم بقسم خاص بها (مثل تعريف الاقتصاد والفكر التونسي).
2 ظاهرة التكرار ميّزت هذا العمل فكثير من الأفكار يعيدها الباحث أكثر من مرّة وفي أكثر من موضع من ذلك ذكره لدور السياسة الاقتصادية الاستعمارية في نشأة الفكر الاقتصادي التونسي في المقدمة وفي الفصل الأول من الباب الأول ثم في الباب الثاني وفي الخاتمة. وكان على الباحث ان يعتمد الاشارة والتلميح حينا والتفصيل والاطناب حينا آخر.
3 كان بإمكان الأستاذ فالحي الاستغناء عن بعض الفقرات أو اختزالها لأنّها أثقلت البحث أكثر ممّا أفادته من قبيل الفقرة المتعلقة بتحول الرأسمالية الى امبريالية (ص 29 33) أو مقارنة الانتاج في ظل النظام الرأسمالي بالانتاج في ظل النظام الشيوعي (ص 241 248).
4 أمّا الهنة الأخيرة، وهي قليلة الحضور، فتتمثّل في صعوبة التفريق أحيانا بين موقف الباحث وموقف الكاتب موضوع الحديث من ذلك قوله «من الراجح أنّها [أي الوسطية] ذات أصول دينية اسلامية لأنّ مفهوم المجتمع الوسط اقتصاديا واجتماعيا هو يقينا مفهوم اسلامي. فالاسلام دين الاعتدال» (ص 35). فإلى من يُنسب هذا الرّأي؟
وفي الختام لا يسعنا الاّ أن نقرّ بأنّ هذا المبحث اضافة نوعية ذات فوائد جمّة سدت ثغرة كبيرة في الدراسات المتعلقة بتونس في ثلاثينيات القرن العشرين، وهو اضافة صيغت بأسلوب سلس جذّاب يشدّ القارئ إليه شدّا ولغة أنيقة تأسره أسرا.
ظهر هذا الكتاب في طبعته الأولى سنة 2007


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.