هذا بعضُ كلام متواضِع عن «غزّة» لم يُسعفْني الذهنُ بأفضل منه سأُسْكِتُ مؤقَّتا القلبَ المعذَّب بالعجزِ عن الصّبرِ و عن الفعْل و لْيتكلّمِ العقلُ إنِ استطاعَ أن يعقِلَ. ما تعيشُه غزّةُ مِحْرَقَةٌ على النّمطِ النازيِّ لكنْ أكثرَ دمويّةً و جُنُونًا, غزّةُ غرفةُ غازٍ خانقةٌ, وإنْ بدَت متراميةَ الأطرافِ, لا ماءَ فيها لا خبزَ لا دواء...لا شيءَ عدا مصّاصِي الدِّماء! الموقفُ العربيُّ الرسميُّ غريب عن نفسه, غريبٌ عن الجماهير غربةَ صالحٍ في ثمود، بعد قلْبِ الآية طبعا غريبٌ عن الظّرْفِ التاريخيّ المصيريّ غربةَ مُدمِني الحشيش و مشتقّاتِه يخشَى وصْمةَ حماس خشيةً أسْكَرتْ ضميرَه الإنسانيَّ و حسَّه السياسيَّ حتّى الثُّمالَة. فشُرطيُّ العالَمِ يقفُ بالمرصاد لكلِّ عقوقٍ مُحتمَل لكلِّ مَن يلوي عصا الطاعة. بالتوازِي مع ذلك تتفَيّأُ النُّخبةُ العربيّةُ في الأغلبِ الأعمِّ في ظِلالِ حكوماتِها و ضَلالِها أيضا. فلا الأُولى تُسنِد ظهرَ الثانيةِ و تقوِّمُ اعوجاجَها ولا الثانيةُ تفكُّ الخِناقَ عن الأولى لتتنفّسَا معا برِئةٍ ثالثةٍ جرّاءَ هذا التحالفِ القسْريِّ نسمعُ صوتًا واحدًا كلّتْهُ الآذانُ وعافتْهُ الحناجرُ و الصوتُ الواحدُ -لا أعْنِي الموحَّد- لا يَصنع كورالا أيًّا تكنْ مساحتُه الصوتيةُ. يتأتّى بعضُ الحرَجِ العربيّ الرسميّ, وهو يتعاملُ مع مِحرقةِ غزّة, من العجْزِ عن «الفصْل المنهجيّ» بين شعبٍ أعزلَ يقاوِمُ الاحتلالَ و الحصارَ والإبادةَ و بين حكومةٍ إسلاميةِ الإيديولوجيا لكنْ ديموقراطيةِ المَسار وهو أمرٌ نادرُ الحدوثِ في الإمبراطوريّات العربيّة الأبديّة لأنّها وفتْ لشروطِ صناديقِ الاقتراعِ التي ضبطَها «العالمُ الحرُّ المتمدّنُ». عدمُ الفصلِ هذا يتركُ الجرائمَ ضدَّ الإنسانيةِ تمرُّ آمنةً على نفسِها شرَّ سقوطِ ورقة التُّوت. فالإعلامُ الغربيُّ الرسميُّ أغمضَ, بأعذارٍ أقبحَ من كلِّ ذنْبٍ, العينَ العمشاءَ المُطلّةَ على تذبيحِ الفلسطينيّين, وتُحدِّقُ مليًّا عينُه المُنْصَبَّةُ على أيِّ خدْشٍ يُصيب الورَمَ الصهيونيّ. بل إنّ إحراقَ علَمِ «الكيان» في إيطاليا مثلا أثناء المظاهراتِ المندِّدَةِ بالعدوانِ قد أثارَ مِن الاحتجاجِ أضعافَ ما أثارَه حرقُ الطفولةِ الفلسطينيّة المُحتميةِ بالمدارس و المساجد و الملاجئ الوهْميّة و معسكرات الاعتقال. حتّى إنّ هذا الإعلامَ اتّهمَ «حماس» بأنّها تستخدمُ المدنيّين, والأطفالَ منهم بالأساس, دروعًا بشريّةً تُتاجِر بموتِهم و بأنّها تحتكرُ الملاجئَ الآمنةَ لنفسها. و إنْ كنّا لا نستطيعُ الجزمَ بصِدقِ هذا الاتّهام أو كذبِه, فإنّنا نجزمُ بأنّ هذا الادّعاءَ مَخرجٌ مّا ربّما يخلّصُ «دُعاةَ حقوقِ الإنسان» من مأزقِ انفضاحِ «سياسة الكيل بمكيالين» التي شرعَ الرأيُ العامُّ العالميّ يتحسّسُها نسبيّا. و لوْلا استهدافُ مدارسِ الأممالمتحدة و موظّفِي فِرَق الإغاثة الدّوليّة لتواصلتِ التعميَةُ على شاكلة «سرد أحداثِ موتٍ معلَنٍ عنوان إحدى أجمل روايات غابرييل غارسيا ماركيز إذ تُطلُّ المحرقةُ ساطعةً جليّةً «كشُرفة بيتٍ» على منْ يريدُ أنْ يراها و على منْ تريدُ أنْ تُرِيه نوباتِ جُنونِها الاستعراضيّة. ستظلُّ قراراتُ مجلسِ الأمن غيرَ مُلزِمة -حتّى وهي مُلزِمة- إلى أن يستويَ الجسدُ العربيُّ المهشَّم, إلى أن تتكوّنَ نخبةٌ عربيّةٌ تكونُ قوّةً ضاغِطةً محليّا و بالتّالي عالميّا, إلى أن ينشأَ وعيٌ سياسيّ يُحسِنُ الفصلَ بين تحريرِ الأوطان و بين بيْعها في المزادِ سرّا أو علنا كما يحسنُ المُرافعةَ عن نفسِه في مَحاكمِ التّاريخ, إلى أن يتصالحَ الحكّامُ مع شعوبِهم في القضايا المصيريّةِ على الأقل, إلى أنْ نرتقيَ مِن درجةِ «الرعيّة» إلى مرتبة «المُوَاطَنَة» التي فيها مِنَ جميلِ الحقوق بقدر ما فيها من الواجباتِ الثقيلة, فمبدأُ «كما تكونون يُوَلَّى عليكم» ماانفكّ ساريَ المفعُول... إلى أن يتحقّقَ ذلك سنظلّ, كما كنّا و مانزالُ, أفشلَ محامين لأعدلِ قضيّة: فشِلنا قولاً و فعلاً و صَمتا. «و كلُّ سكوتٍ كلامٌ قبيح»: هكذا تكلّم سميح القاسم, و مثلَه فعَل كلُّ نِسْيٍ مَنْسِيٍّ. لِمَ يفشلُ العربُ فشلا مسترسِلا في السياسة الخارجيّة؟ ألأنّهم يكسِرون عظامَ السياسة الداخليّة ويلوُون ذراعَها القصيرةَ أصْلا؟ أم لأنّ «السُّلطةَ» عندهم مرضٌ عُضال حارَ في شفائِه طبُّ الشّرقِ و الغربِ؟ أم لأنّ حسَّهم التجاريَّ أقوى ممّا يتحمّلُه الحقلُ السياسيُّ؟ فكُلُّ متاعٍ لديهم مُعَدٌّ للبيع: الأرضُ كالعِرضِ و المبدأُ كالقيمةِ و «القضيّةُ» كآبار الذّهبِ الأسودِ...؟ و بلا هوادَةٍ تعلُو في الآفاقِ الخُطَبُ العصْماءُ تبيعُ الريحَ للمراكبِ الهائمةِ على وجهها و تخبِطُ خبْطَ عَشْواء في متاهات «البؤس العربيّ» و قد رسَخَ اليقينُ بأنّها تصيبُ من العدوّ مقتلاً. بنا حلّتِ المِحرقةُ كي ترتِقَ الذاكرةَ المُهترِئةَ الهاربةَ من فيْضِ هزائمِها والمرتعِبةَ من هَامَةِ حقِّها القتيلِ يصرخُ فينا: «اُسقُونِي». غزّةُ المحترِقةُ المُحْرِقةُ تهزأُ بنا, تصفعُ جُبْنَنا, تركُلنا بالجُثَث, تُدثِّرُنا من هوْلِ الفضيحةِ المعلَنةِ، ثمّ تُنشِد مرثيّتَها مرثيّتَنا كمْ كنتَ وحدكَ يا ابنَ أمِّي يا ابنَ أكثرَ من أبٍ، كمْ كنتَ وحدَك هكذا تكلّمَ محمود درويش، ومثلَه صنعَ شهودُ الأرضِ والسّماء. وكي لا يُخِّرِّبَ القنوطُ قلوبَنا الداميةَ سنظلّ نردِّدُ بالصّوتِ المرتعِشِ إيّاه لَكَمْ أحنَى القدرُ قامتَه إكبارًا لكلِّ شعْبٍ أرادَ الحياةَ فأرادتْه بمِلْء فؤادِها! لَكَم استجابَ، فأجْلَى الليلَ و كسَّرَ القُيُود.