لقد باح لنا تاريخ حركات التحرّر الوطني ومسيرة الثورات الوطنية المظفرة في العصر الحديث، بأسرار ثباتها وصمودها وتماسكها وانتصارها، وفي مقدمة تلك الأسرار الثمينة على الاطلاق، الوضوح الكامل لثوابتها الوطنية المقدسة وتحصينها والدفاع المستميت عنها والتمسّك الدائم بها، خصوصا أثناء فترات الأزمات أو الانكسارات أو الخيانات... وفي هذا الصدد، علّمنا التاريخ الحديث ومسيرة الثورات المعاصرة أبجديّات الثوابت الوطنية التي تمسّكت بها بحزم شديد، حركات التحرر والثورات الوطنية المظفرة في الجزائر الشقيقة وفي فيتنام وكوبا وافريقيا الجنوبية وفينزويلا وبوليفيا... قلب كلّ مقاومة وطنية: ثوابتها ففي خضمّ العدوان الصهيوني الامبريالي البربري على الشعب الفلسطيني في قطاع العزة، وضمن التجاذبات السياسية المتنافرة هنا وهناك، ظلّت منظمة التحرير الفلسطينية (الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني) الغائب الأكبر على الاطلاق... ... وبالرغم من أنّ تغييب المنظمة لم يكن وليد اليوم أو البارحة، بل استمرّ طيلة العشر سنوات الأخيرة، وتحديدا منذ مفاوضات مدريد واتفاقيات أوسلو البائسة، الاّ أنّ جميع الصراعات الداخلية وحلقات الإقتتال الدموي بين أطراف السلطة الوهمية وأطراف الحكومة الوهمية (والاثنان معًا تحت الإحتلال)، والأحداث المحلية والعربية والاقليمية والدولية... أبرزت جميعُها الغياب الرهيب لمنظمة التحرير وأنّ هذا الغياب غير الطبيعي قد صنع فراغا مرعبا ورسم بصمات مدمّرة وخلق فوضى سياسية وتنظيمية عارمة غير مسبوقة بين صفوف الشعب الفلسطيني الواحد، وداخل الأجهزة القيادية لفصائل المقاومة الوطنية!! ... كيف لا؟! والحال أنّ المنظمة تمثّل في حدّ ذاتها احدى الثوابت السياسية الحيوية في صراع المقاومة مع العدو الصهيوني، حيث أنّ تأسيسها لم يكن بأيّة صورة من الصور وليد رغبة فئوية ضيّقة، بل كان ثمرة لماراطون مُضنٍ من المباحثات الطويلة والجدل الواسع بين مكونات الشعب الفلسطيني الواحد وتنظيماته السياسيّة... ... ومن تلك الزاوية تحديدًا، فإنّ منظمة التحرير الفلسطينية تُعتبر مكسبا وطنيا وشعبيا ثمينا غير قابل للتفريط، خصوصا وأنّ المنظمة كانت أوّل ممثل رسمي للشعب الفلسطيني يقتحم أسوار منظمة الأممالمتحدة ويبلّغ وجهة النظر الفلسطينية الرسمية لجميع شعوب العالم! كما أنّ منظمة التحرير الفلسطينية توفّقت في أن تقتلع بثوابتها وثباتها ووحدتها صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني من داخل أروقة الأممالمتحدة، ثم تقتلع أيضا الاعتراف الرّسمي بها بصفتها تلك، من طرف قرابة 160 دولة ومنظمات دولية واقليمية، وكل ذلك يمثّل المكانة الاقليمية والعالمية التي اكتسبتها المنظمة في أغلب أرجاء العالم، حتّى أنشأت شبكة مهمة جدّا من السفارات ومكاتب التمثيل والاتصال والمراكز الثقافية وغيرها في البلدان العربية وافريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأوروبا... أمّا داخل الوطن المحتل، فإنّ المنظمة اكتسبت بتوحّدها وثباتها مكانة وطنية مرموقة وموقعا شعبيا شامخا لم يسبق له مثيل في صفوف أبناء الشعب الفلسطيني بجميع مكوّناته الجماهيرية والسياسية، أبرزها على الاطلاق انشاء برلمان فلسطيني عبر الانتخابات المباشرة وهو المجلس الوطني الفلسطيني الذي يمثّل جميعُ أعضائه كلّ المنظمات والفصائل والتنظيمات الفلسطينية التي تقودها روح المقاومة والكفاح المسلح في وجه العدو الصهيوني... ... كما أنّ منظمة التحرير الفلسطينية أنشأت العديد من تنظيمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والثقافية والاتحادات النقابية والمهنية المتنوعة داخل الوطن المحتل... أمّا الوثيقة التأسيسية الأساسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي الميثاق الوطني الفلسطيني، فلقد ركّزت أساسا على الوحدة السياسية والتنظيمية لقوى المقاومة وثبّتت أكثر من أي وقت مضى الثوابت الأساسية الحيوية للثورة الفلسطينية، وأوّلها اعتبار تنظيمات المقاومة الفلسطينية متجمّعة، حركة تحرّر وطني وقومي واحدة، وتبرئة قضية الشعب الفلسطيني من كل أنواع الدغمائية الدينية المتكلّسة والمصطنعة المعادية للسّامية، وأيضا حمايتها من العداء الديني المدمّر، وتحصينها وتدثيرها بالقداسة التحرّرية الوطنية الدافئة الطّاهرة... كما أكّدت وثيقة الميثاق الوطني الفلسطيني أنّ الصراع التاريخي الوحيد للشعب الفلسطيني منذ 1948 هو صراع مرير في وجه الصهيونية ودولة الاحتلال التي أنشأتها، وليس إطلاقا صراع في وجه اليهود في حدّ ذاتهم!! وفي نفس هذا المفهوم للصّراع تحديدًا، انخرط الخطاب السياسي الفلسطيني (الرسمي والشعبي على حدّ السّواء) واندرجت أدبيات الحركات والتنظيمات الفلسطينية وهياكلها الاجتماعية والثقافية والاعلامية... والجدير بالذكر أنّ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية محصّنة بالميثاق الوطني الفلسطيني، لم يكن ليرى النور والحياة لولا الاجماع الشعبي والوطني الهائل، ممثّلا في حركة التحرّر الوطني الفلسطيني المتشكّلة من حركة التحرير فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وجبهة النضال الشعبي وحزب الشعب والجبهة الشعبية القيادة العامة والكثير من الشخصيات الوطنية المستقلّة. مقاطعة المنظمة... ثمّ تغييبها وبما أنّ منظمة التحرير الفلسطينية قد اكتسبت تلك المكانة الشعبية والوطنية والاقليمية والدولية الهائلة وبدأت تشقّ عباب البحار المتلاطم وتتصدّى لجميع أنواع الزوابع والبراكين بصفتها الناطق الرسمي الوحيد والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل وفي الشتات حتّى كادت تتخذ موقع «الحكومة الثورية في المنفى» وبما أنّها جمّعت لأوّل مرّة في خندق مقاومة وطنية واحدة بجميع ثوابتها المقدّسة أبرز قيادات ورموز الثورة الفلسطينية ياسر عرفات أبو عمّار، خليل الوزير أبو جهاد، الدكتور جورج حبش، فاروق القدومي أبو اللطف، الدكتور نايف حواتمة، أبو العبّاس محمّد، أحمد جبريل على سبيل الذكر لا الحصر... ... وبما أنّ ذلك الانجاز الوطني الضخم قد رأى النّور، فكان لا مفرّ من أن تخرج بعض الأدوات من جحرها لسدّ الطريق أمام المنظمة والسّعي إلى إطفاء نورها وإخماد شعلتها!! ... وبالفعل، وبعد مرور سنوات مُضيئة على حصول ذلك المكسب الوطني الثمين، بدأت تطفو على السّطح مجموعات غير معروفة تقول أنّها «جهادية»، وذات تركيبة ذهنية ونفسية دينية موغلة في التكلّس التاريخي، وقالت عن نفسها منذ البداية بأنّها تحارب اليهود عبر محاربتها للصهيونية ودولتها في فلسطين المحتلّة، في حين أنّ المقاومة الجزائرية مثلا لم تقاتل أخطبوط الاستعمار الفرنسي القديم المباشر، على خلفيّة دينه المسيحي على الاطلاق، بل فقط لأنّه استعمار عسكري توطيني جارف سعى إلى ابتلاع الجزائر تماما... كما أنّ المشهد نفسه تقريبا ينسحب على حركات التحرّر والثورات الوطنية في مصر وليبيا وتونس والعراق وسوريا وفيتنام وكوبا وافريقيا الجنوبية... ... وضمن تلك الرّؤية الدخيلة تماما على طبيعة القضية الفلسطينية، لم تتردّد تلك المجموعات في اللجوء إلى قواعد المكيافليّة «الغاية تبرّر الوسيلة» وتستلهم منها قرار الشيخ أحمد ياسين ونائبه الشيخ عبد العزيز الرنتيسي القاضي بالمقاطعة التامة لمنظمة التحرير الفلسطينية وعدم الاعتراف بها ثمّ مناصبتها العداء العلني!! ... ومع تنامي تلك المجموعات خلال العشرين سنة الأخيرة وتبلور هيكلتها وتصعيد خطابها الرّسمي واتساع نفوذها المدني، فلقد أجمع قادتها الجدد: محمود الزهار، محمد نزّال، خالد البطش، أسامة حمدان، ابراهيم عبد الله شلّح، خالد مشعل، فوزي برهوم وغيرهم، على مقاطعة المنظمة والسعي إلى تغيبها... ولكن، بالرغم من أنّ هؤلاء القادة قد انزلقوا بالطابع التحرّري الوطني لقضية الشعب الفلسطيني وعمقها القومي الراسخ نحو متاهات وكوابيس الصراع الديني الصّرف، فإنّ تنظيماتهم أثبتت قدرة كبيرة على الصمود والتصدّي ودفعت العشرات من أبنائها الشباب ضمن كوكبة الشهداء، وبرهنت فوق أرض المعركة على أنّها فصيل أساسي من فصائل وجبهات المقاومة الباسلة... ... ذلك فيما يتعلّق بنهج مقاطعة منظمة التحرير الفلسطينية وعدم الإعتراف بها! ... أمّا النهج الموازي لذلك، وهو تغييب المنظمة وتجميدها تارة، واحتكارها وابتلاعها تارة أخرى، فلقد قاده ومازال يقوده محمود عباس (باسم حركة فتح) ما بعد اغتيال الشهيد أبو عمّار، بالرغم من أنّ للمنظمة هياكلها القيادية التي تصنع القرار، مثل المجلس الوطني الفلسطيني، واللجنة التنفيذية للمنظمة ومجلسها المركزي وغيرها من الهياكل القاعدية والوسطى!! ... وأستحضر في هذا السياق ما قاله المفكّر جمال الغيطاني ضمن آخر كتاباته الصّحافية: «كثيرا ما تكون السياسات الخاطئة لأصحاب قضيّة ما، ضارة أكثر من سياسات أعدائها».