يسعدني أن يكون هناك لقاء حول تاريخ تونس الحديث بين العمال ورجال الثقافة، وان يتجدد هذا اللقاء، وتقودني الذاكرة في مثل هذه المناسبات ومن خلال مطالعاتي لكتاب «العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية» للطاهر الحداد» الى أول لقاء بين حركة الجماهير والمفكرين ودور هؤلاء المفكرين في ربط الصلة بينهم وبين المجتمع التونسي وذلك «بالمعاضدة ولمّ المعونة» حيث لابد للمثقف ان كانت له آراء ان يمتحنها في دنيا الواقع ومع الشعب، وكما التقى الطاهر الحداد والدرعي والمدني ومحمد علي بالعملة كان الاتحاد العام التونسي للشغل فضاء التقى فيه المسعدي بالعمال، وفي هذا الفضاء التقى جيلنا عندما تأسست نقابة التعليم العالي والبحث العلمي بجماهير العمال بحيث كان اللقاء يتم جيلا بعد جيل بين العاملين بالفكر والعاملين بالساعد، وقد كان كبار المثقفين ملتحمين بالطبقات الاساسية، وتاريخ الأمم كله تواصل مستمر بين الفكر والفن والعامل بالساعد في بناء الحياة المدنية. ومحمود المسعدي عرفناه نقابيا وعرفناه أديبا ومفكرا، والرجل كتب السدّ قبل معاشرة وملامسة الناس في فضاء جماهيري، ومن يقرأ: حدّث أبو هريرة قال يرى في أبي هريرة الصورة المثلى التي كان يريدها محمود المسعدي لنفسه و «أي مصير يختار؟» وفيه اشارات تدل على مقاصده القصوى مما يكتب، كل ذلك قبل ان يخوض تجربة العمل السياسي والعمل النقابي ومن ابرز ما كان يرجوه وينظّر له في هذا الاثر «مسؤولية الفرد عن مصيره» والفرد التونسي الواعي يومئذ كان يشعر ان عليه المغامرة في الحياة لتحقيق الوجود على أسمى وجه ومن ينصت الى اصوات المثقفين التونسيين يومئذ يجد بينهم تجاوبا في هذا الشأن، فالشابي يقول: ليت لي قوة الأعاصير يا شعبي فألقي اليك ثورة نفسي ومحمد علي دعا العمال الى التعاون والانخراط في العمل الجماعي ودعا الحداد الفرد الى «تأصيل نفسه في الواقع على أمل ان يغير ما بالواقع بالعمل»، واعتبر المسعدي بأن «الوعي إدراك ما نحن عليه والفعل ادراك ما ننشد من تغيير»، وفي حديث العدد: «البعث الاول رديف النهضة ورديف الاحياء»، والشعارات الرائجة يومئذ تدعو الى اليقظة والى البحث والى الفعل، لذلك كان المسعدي يردد في كتاباته القيم الشائعة في ذلك العصر والتي تستهدف سائر الميادين والامر اوضح في السدّ، فغيلان محرّك السواكن، يحرّك الثيران يبتغي إحياء النفوس لقد كان المسعدي شاعرا حدسيا بضرورة الفعل بل كان ذا مشروع واضح، وجد كغيره من المثقفين والنقابيين الجماهير المنخرطة في الاتحاد العام التونسي للشغل القوى الحاملة للمفاهيم الشخصية والجماعية. وجاء الاستقلال فانبرى يحقق مشروعه وتمتع ابناء العمال بحق التعليم المجاني، وأسندت المنح الجامعية لمن واصل تعليمه العالي وحقق الرجل ما كان يحلم به، مثله مثل غيلان وهو يحلم ببناء السدّ ومثل أبي هريرة ذاك الذي يريد لفّ أحياء العرب حول التعاون وحول البناء. الرجل ربط نضاله وفكره بالمعارك التي خاضتها الطلائع المثقفة منذ أوائل القرن لتعميم التعليم، لقد أسس الاستعمار مدرسة وحيدة لتعليم التونسيات بتونس، انها مدرسة نهج الباشا التي كانت غايته من انشائها غرس الفكر الاستعماري في عمق المجتمع التونسي وذلك الى جانب الغايات العلمية التي لا مناص منها للإغراء بهذا الفكر، وتأسست مقابل ذلك المدارس القرآنية منذ أوائل القرن والتحق المتخرجون منها بالتعليم الزيتوني، وظهرت الحاجة الى اصلاح هذا التعليم بالتفتح على العلوم العصرية ونُظمت المظاهرات والاعتصامات في سبيل ذلك حتى اصبح تعميم التعليم مطلبا شعبيا الى ان جاء محمود المسعدي وهو رجل ميدان الى جانب كونه رجل فكر وابداع فجعل من هذا المطلب الشعبي أمرا ممكنا، لذلك نحن نقف اليوم على انجازاته الميدانية ولذلك وانصافا لتاريخنا لا ينبغي ان يصبح المسعدي ومن خلال أدبه، مجرد مادة لامتحان الباكالوريا يقرأ لغرض النجاح، لأن المسعدي سيحنّط حيئذ، ومن يريد ان يستفيد من محمود المسعدي عليه أن يستلهم من اسباب ابداعه لا شكل ابداعه.