يقتضي المنجز الإبداعي دوما في مختلف مجالاته وتجلياته، شروطا خاصة لتقدير درجة تميّزه وجدّته، ورصد عناصر فرادته وأصالته، حتى يتاح الكشف عن الأبنية الاساسية لمعالمه الابداعية وهي شروط لا ينهض بها غير النقد، حيث تكون الوظيفة النقدية الفضاء الارحب لمحاورته وتمحيصه، ولا غرو، أن المحاورة النقدية للابداع لا تتأتى غالبا لغير المبدعين حيث يكون التفاعل بين طرفيهما تفاعلا ذهنيا وفكريا منتجا ومثمرا، ولذا، فالوظيفة النقدية في عمقها وظيفة ابداعية فهي تكشف عن المكامن المختلفة للمنجز الابداعي وتميط عنه حجبه المعقدة فتجعله شاخصا سافرا للملتقي، وفي هذا المسار يكون النقد «رئة ثانية للابداع» على حدّ تعبير وارن ماتينلي، إذ يغدو أمينا على الابداع بعد ان يحال اليه فالمحاورة النقدية للمنجزالابداعي هي توسيع لآفاقه وتفتيح لحدوده، وهذا الضرب من النقد الاصيل للابداع لا يكون الا منتجا إبداعيا، وبناء على منهج هذا المسار النقدي الذي يروم تحرير أفق المنجز الابداعي من فضائه الذاتي وسياقه الضيق لإشاعة قيمه في الفضاءات الانسانية والثقافية والتاريخية الأشد اتساعا ورحابة.. فهنا، تدقيقا، نقف على ملحظ اساسي في النقد المبدع وهو جوهريته الاتيقية التي يمكن تلخيصها وفق تحديد مفهومي اجرائي بما يلي: انه وعي الذات الناقدة، الحيادي الامين في محاورة المنجز الابداعي بكفاءة استقصائية راقية قصد تقويمه والكشف عن مختلف مكامنه الابداعية انتصارا للابداع، والحقيقة ان النقد يلهمنا الروح الابداعية الاشدّ عمقا «ولا وجود لشيء على قدر من القداسة بحيث يمكن ان يُعفى من هذا التمحيص المتعمق والصارم الذي لا يهاب أحدا» إنّ مضمونا مماثلا لهذا الموقف النقدي الذي يعلنه كانط في كتابه «نقد العقل الخالص» هو ما اسميه «بالنقد البروميثي» نسبة الى شخصية بروميثيوس، الذي تقول عنه الاسطورة اليونانية أنّه اختطف النار من عوالم السماء ليهبها للبشر متحديا بذلك سلطة «زوس» الرهيبة الذي اعتبر عمله خيانة فظيعة لا تغتفر فعاقبه بأن قيّده الى أعلى ذروة من جبل الأولمب وأمر نسرا ضخما بأن ينهش قلبه حتى اذا ما فرغ من انتهاشه نبت له قلب جديد فيعود الى انتهاشه مرة اخرى... وهكذا دواليك... فالناقد الحقيقي هو ناقد بروميثي النزعة، لا همّ له الا ايصال المعاني الابداعية الاشد عمقا الى متلقيها بجسارة مبدئية لا تلين ولا تتزحزح نحو مسارها... وغالبا ما يصطدم هذا النمط من النقاد بأقانيم ثقافية متعددة مرجعها الفكري والايديولوجي غالبا خطاب الكفاية الابداعية المزيف الذي ينهض على مبدإ «ليس في الامكان ابدع مما كان» وهو مبدأ رجعي تغلغل بقوّة في كثير من الذهنيات والمواقع الثقافية المحلية مما أنشأ لدى البعض سلوكا تصنيميا في الممارسة الابداعية فلا تحرر منه الا بتكريس الابداع الحقيقي وتجذير النقد الجريء والكفء «الذي هو امتداد محايث لكل منجز إبداعي يتجاوز وظيفته التقليدية في علاقته به الى مستوى الابانة عن ملامح حداثته الخاصة والجريئة كما يقول دافيد سينغران اذن هذا المقصد بالضبط هو المعترك الجوهري للحداثة النقدية البروميثية فلكل منجز إبداعي أصيل قيمه المخصوصة والنقد الذي يتعاطى مع مختلف أصناف المنجزات الابداعية لابدّ ان يتسلّح بمرصده النقدي ذي الاوساع المتعددة. ان هذا المسار الحداثي للنقد هو الكفيل بالكشف عن المكامن الابداعية المتعددة للمنجز الابداعي الواحد وهو ما يجعله مفردا بصيغة الجمع... إن المساءلة النقدية البروميثية هي منهج عتيد في شق فضاءات السوائد الثقافية، وتصديع أنماط الروح الابداعية والنقدية العتيقة والعجفاء، لانبعاث روح جديدة تخرق الامتثالية/ التنميطية، روح مُشاقِقَة لأقانيم الحسّ المشترك في الإبداع والنقد، وهو مقصد استراتيجي للنّضال الثقافي النبيل والراقي، وهو منهج إلتزامي، منفتح المسارات، ولا يخضع لثقالة الجوانب الإيديولوجية الضيقة، إذ تكون جوانبه الجوهرية انتصارا للإبداع، الإبداع الحقيقي والحقيقة الإبداعية، وقد تبادر الى البعض من ذوي الفهم السطحي والقاصر، أن هذا النمط النقدي الذي نشير الى مقوماته ومعالمه هو ضرب من «العنف النقدي» أو نزعة من «العدائية الثقافية» أو منهج يسوّغ الإفتئات على المبدعين بغطاء نقدي... وهي تصوّرات قد يُلتمس لأصحابها الأعذار الكثيرة سيّما وقد نشؤوا في ظلّ ذائقة إبداعية رديئة التكوين، ونسق نقدي تغلب عليه المحاباة والمجاملات والحسّ البراغماتي وروح الصفقات ممّا حوّل النقد إلى شكل من المضاربات التجارية...