إن الوعي المستنير يتفوّق حتما على قوّة الوهم، والزيف والخداع، والنقد المستنير وهو الذي يجعل مقصده تقويض الأصنام وتفكيك الأوهام، ولأن طائفة كبيرة ممّن تطلق عليهم بعض المواقع الثقافية والإعلامية عبارة: «مبدعون»، فإن هؤلاء تحديدا أكثر النّاس استحقاقا لتفكيك أوهامهم، ولأنهم يعيشون وضعا سيكولوجيا لا يخلو من مكوّنات باثولوجية متعددة، فإنّهم سيكونون أكثر «المبدعين» مكابدة من عقدة «الفوبيا النقدية» «critique phobie» التي تضغط على نفسياتهم ضغطا قاسيا بمجرّد تخيّل نصوصهم / ذواتهم / موضع النقد، وهو شعور يجرح كبريائهم الإبداعية جرحا بليغا... إن وظيفة الناقد ليست وظيفة الطبيب النفسي، ومع أنّها وظيفة علاجية في عمقها، إلا أنّها لا تتوخّى المهدّئات ولا الحصص العلاجية الطويلة، إذ تعتمد أساسا على الجراحة القيصرية المباشرة، فهي الطريقة العلاجية الأشد مفعولا ونجاعة.. وهي تتطابق مع المبدإ الدارويني الشهير «البقاء للأصلح» وأعني «البقاء للمبدع».. وهنا ترفع الحصانات النقدية الموهومة بغير تشريع دستوري عن هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يتمتعون بهذه الحصانات بشكل أبدي.. إن نمط النقد الذي نشير إليه، إنّما نروم تطبيقه أساسا على المجال الشعري في السّاحة الثقافية التونسية، وتدقيقا على بعض الشعراء الذين صنعت منهم بعض الاوساط الثقافية والاعلامية التي لا تمثل إلاّ نفسها أعلاما للإبداع، والحال أنّهم بذكورهم وإناثهم ليسوا أكثر من مجرّد «فقاعات» أو «بالونات».. إن كثيرا من المبدعين مغيّبون عن الإنتشار / الإشهار / الإعلامي والثقافي... لا لشيء الاّ لانعدام علاقاتهم «بصانعي الفقاقيع والبالونات الشعرية» والمتنفّذين، وهنا أستحضر القولة المأثورة لجبران خليل جبران: «الحقيقي فينا صامت، والاكتسابي ثرثار» وأنا أفضّل ترجمتها على النحو التالي وكل مترجم خائن : «الحقيقي في إبداعنا الشعري صامت، والزائف ثرثار».. أليس من مفارقات الدّهر أن يتسلل الى ساحتنا الشعرية كائن شعري لا علاقة له بالشعر، كما لا علاقة لأندونيسيا بجزر الموريس، ولكنه مع ذلك يفلح في بث شعوذاته الشعرية طيلة عقود داخل الساحة الابداعية الوطنية، فيصفق له المصفقون بحرارة، ويعتبره بعض نقاد الموالاة «صاحب مدرسة شعرية في فضاء المشهد الإبداعي التونسي» بل ويترجم له ناقد محترم مسيرته الشعرية في مؤلف توثيقي للتأريخ لدوره التأسيسي والمفصلي في تاريخ الحركة الشعرية الحديثة... مع أنّه لم ينتج سوى بعض «العناقيد الشعرية الخاوية» وبعض «الحبّات» الشعرية التي لا شأن ولا وزن معتبر لها... ولكنها جعلته «عيّاشا» بشعره ونجما من نجوم المحافل الشعرية / الكورالية / التي لا يغيب عنها الا للضرورة القاهرة.. فلا نعجب إذن لو تمّ استدعاؤه لحضور حفلات الختان أو عقود الزواج أو تظاهرات الغناء الشعبي ما دام ذلك يشكل مناسبات استراتيجية لتسويق منتوجه الشعري / الفريد والاستثنائي !! ثمّ.. أليس مما يرفع درجة السكر في الدم، أن يتكرّس نخبة من الاكاديميين والمترجمين لترجمة نصوص شعرية الى الفرنسية ضحلة البناء الإبداعي لأحد الشعراء الهواة الذي يعمل بلا هوادة للظفر بشهرة ونجومية شعرية ظلّ يلهث وراءها منذ سنوات عديدة.. ومع أنّه يفترض أن لا يترجم إلى اللغة الفرنسية او غيرها من اللغات الا النصوص الشعرية الجيّدة وهي كثيرة جدا في ساحتنا ليتلقاها المتلقي الأجنبي بروح تثاقفية راقية.. فكيف استطاع هذا «الشاعر» أن يحتوي هؤلاء المترجمين وأن يضعهم في جيبه؟ الأكيد، أنّه استخدم طرقا خاصة قوية التأثير على عزائمهم حتى أفقدهم اياها.. وطبعا دون إغفال فرضية ان «تمتماته الشعرية» و»رذاذه الشعري» العابر للقارات هو السبب في ذلك... كما لا ينبغي إغفال الدور الانثوي المؤثر في الحركة الشعرية النسائية... وتتصدّر هذه الحركة جميعها في الوقت الراهن، شاعرة ذات «أنوثة مائية، استطاعت نصوصها «العجائبية» ان تستقطب طائفة غفيرة من النقاد المحليين وطائفة غفيرة أخرى من نقاد الوطن العربي ذي الأرجاء الواسعة، دون ان ننسى ما حظيت به نصوصها من بعض الجهات الثقافية الاوروبية حيث ترجمت الى بعض اللغات الاجنبية... والحال أنها لم تنتج سوى ثلاثة دواوين لا أكثر... ماهو سرّ تقاطر النقاد بعربيّهم وأعجميّهم على نصوصها تقاطر الذباب الأزرق على العسل؟ ماهو حجم الابداع الشعري الذي أضافته نصوص هذه الشاعرة المائية للمدوّنة الإبداعية الثقافية التونسية غير الاحتفاء الهوسي بالطقوس الجسدية والاستيهامات الإيروسية، وبأساليب تعبيرية لا تخلو من ضعف وتكلّف؟ إنّ الإشارة الى هذه النماذج الشعرية السالفة، لهو من باب المثال لا الحصر، فالأمثلة التي تُضارع هذه النماذج كثيرة، ومتناثرة هنا.. وهناك.. في ساحتنا الثقافية.. إن ما كتبناه في هذا المدار إنّما يستهدف التشخيص الواقعي لبعض الظواهر التي اعتبرها ذات ملامح «باثولوجية» في كياننا الثقافي، وهو ما يقتضي تدخّلا نقديا عاجلا، كما يدفعنا الى الكتابة في هذا الشأن إيماننا العميق بوجوب التضايف والتنافذ بين الابداع والنقد، وجسامة المسؤولية النقدية كآلية منهجية معرفية خطيرة في تمحيص المنتج الإبداعي وتحديد معالمه، وتصفية شوائبه، وبلورة معطياته وعناصره خدمة وانتصارا لمبدإ الإمتياز الثقافي الذي هو عنوان رسمي لخياراتنا الثقافية في تجلياتها المتشابكة: وعيا، سلوكا، ذوقا، وإنتاجا، وهو أرضية استراتيجية لكسب مطامحنا الثقافية، وتكريس قيمها الراقية، وتجذير الحضور الإبداعي لثقافتنا التونسية في مختلف المواقع.... فهل يمكن إنجاز هذه المطامح الثقافية دون مساءلات جذرية بشأن خطاب الإبداع والنقد؟؟