إنّ الرجل الذي تحاكمون الآن ليس «صداما» الذي كنتم تعرفون، إنّما هو شبيه له وكم من شبيه لا يمثل شبيهه في شيء زائد عن شكله وصورته، انه نسخة منه وكم من النسخ التي لم تكن مطابقة للأصل أبدا. إنّ صدام قد مات... وإنّما الذي تحاكمون ماهو الاّ شبح منه، أفلا تخافون الأشباح تدخل محاكمكم؟ أليس صداما الذي تريدونه للمحاكمة هو ذلك الرجل الذي كان في ماضي الزمن قد قتل البعض من أهالي «ديجيل» كما تدعون وأغار على «الكويت» وبعده قاوم الإمبراطورية الجديدة وحلفاءها الذين جاءوا لغزو العراق، من كل حدث وصوب بجيوشهم الجرارة وآلياتهم وطائراتهم وكان هو فيما بينهم يصول ويجول ويتحرّك في شوارع بغداد ووجهه وضاح وثغره باسم؟ هل أنتم تشاهدون صداما ذاك الآن بينكم؟ هل هو ذلك الرجل عينه بكل ماعهدنا فيه من قوّة وعنفوان وبأس شديد؟ لا، لا أحد يصدق ذلك إنّما هذا الذي تحاكمون ماهو الاّ شبح منه، أفلا تخافون الأشباح وأنتم تنظرون؟ آه، عفوا اني لأرى القاضي يُغمض عينيه أحيانا ألكي لا يرى الحقيقة أمامه أم لكي لا يرى الأشباح أم ان ومضات حارقة من اشراقات الماضي العزيز تدكه وتقضّ مضجعه وتستشري أحيانا في القاعة فتُعشيه وتخطف ببصره فتُضنيه أم أنّه يغمض عينيه ليتساءل بينه وبين نفسه: ترى باللّه من أين جاءنا القرار بإدانته، هذا الرجل الذي قد طُمست كل مقومات شخصيته بالغازات السامة التي أفقدته وعيه في أكثر من مرّة وبالإهانات التي قد جرحت كرامته وأحبطت عزائمه أكثر من مرّة ومرّة.. هذا الرجل الذي تعرّض للتعذيب بكل أشكاله وألوانه؟ أنظروا مليا أيّها الناس، ماذا بقي من صدام ذاك الذي تعرفون وتدعون وجوده بينكم وتحاكمون أما اذا تأكدتم فرضا ان ذلك الرجل هو صدام بالفعل فإنّه سيقول لكم اذا ما بقيت له القدرة على الكلام: انّه قد قتل جماعة ديجيل قبل أن يقتلوه وماذاك الاّ دفاع عن النفس وهو مقبول شرعا وقانونا كما هو قد أغار على الكويت بغرض الدفاع عن الكويت نفسها وعن غيرها من البلاد العربية كلّها عندما كانت تتهدّدها الأخطار من أعدائها المتربصين بها منذ أكثر من مائة عام وما ذلك أيضا وجه من وجوه الدفاع عن النفس وعن الوطن المقبول شرعا وقانونا لو كنتم تعلمون وانه لو قلبنا الواقع على وجهه الصحيح لتبيّن للعالم كلّه ولكم بالحجّة والدليل من هو المتهم فيكم والمدانُ ومن هو البريء. أمّا صدام هذا الذي بين أيديكم فهو في الحق معلم تاريخي فقط كانت قد حطمته الحرب ولم يبق الاّ أثر بعد عين فهل أنتم تحاكمون أثرا أم مازلتم تقفون على الأطلال تبكون أم أنتم تقفون عليها تحاكمون وتسخطون؟ وهل أنتم تحاكمون الشخص في صدام أم الشخصية؟ أمّا الشخص فقد يكون هذا الذي أمامكم وليس هناك أي فرق بينه وبين أي واحد من بيننا أو بينكم وأما الشخصية فقد اندثرت وبادت والقانون لا يحاكم الاشخاص لأنّهم أبرياء بطبعهم وهم في الاصل كلّهم سواءما لم تتدخل عوامل الشخصية فيهم فتحوّلهم من أشخاص الى شخصيات، عندئذ فقط يصبحون مسؤولين أمام أنفسهم وأمام الناس وأمام القانون وأمام اللّّه... أم ان تتهم شخصا فاقدا لشخصيته فإنّك اذن تتهم شخصا غير مسؤول وانّك كمن يطلب من شجرة مقتلعة من أرضها ومن جذورها بعيدة عن تربتها ومائها وهوائها ان تمده كالعادة بثمارها وذاك مستحيل. كما أنّ المعروف في جميع العلوم الانسانية والقانونية وبالأخص منها علم النفس الاجتماعي ان الشخصية السويّة لابد أن تتوفّر على جسم سليم وعقل سليم بكل مخزونه التاريخي والاجتماعي والنفسي اي ان تكون متوفرة على كامل وعيها بنفسها وبتاريخها وبمعطيات المجتمع فيها ومن حولها أي تلك التي تكون محافظة على وجودها في مختلف أبعاده الذاتية والوجدانية والمعرفية والعملية التي تتميّز بها عن غيرها من الأشخاص، فهل بقي من صدام الذي كنتم تعرفون من هذه الخصائص ما يؤكد وجوده بينكم وأنتم تحاكمون؟ مهما يكن من أمر فإنّه لا شيء يقلّل من شأن صدام هذا الذي سيبقى علما شامخا حيّا كان أو ميّتا على مدى الأيام والسنين ما بقيت في أرض العراق باسقاتُ النخل الضاربة بجذورها في أعماق الأرض والطائلة بفروعها عنان السماء والتي لا يهمها شيء مهما كان من أمر ناطحات السحاب ونبح الكلاب. صديقي دولة الرئيس ترددت كثيراً قبل ان احمل قلمي لاخط إليك رسالة تحمل من المشاعر والهواجس ما لا تطيق ذكرى صداقة او مصلحة وطن اخفاءها، خصوصاً بعد ان بات الانزلاق الدموي يحاصرنا جميعاً، حكومة ومعارضة، شعباً ووطناً. لقد جمعتنا، يا دولة الرئيس في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات، الفكرة القومية العربية واكثر ما استهوانا فيها، وفي دولتها البكر الجمهورية العربية المتحدة ذلك الشعار الجميل، الذي سمعناه اكثر من مرة في خطبكم، وهو «دولة توحد ولا تفرق، تصون ولا تبدد، تشد ازر الصديق، وترد كيد العدو»، بل تلك المعادلة الدقيقة التي رسمها جمال عبد الناصر حين قال «ان الوحدة الوطنية هي الطريق الى الوحدة القومية». لن ادخل معكم، يا دولة الرئيس، في جدل الحكومة والمعارضة، الاكثرية والاقلية، الثلث المعطل او الثلث الضامن، شرعية الحكومة او لا شرعيتها، دستورية قراراتها او لا دستوريتها، فأياً كان الخطأ والصواب في هذا الجدل، فان لا خطأ اكبر من خطأ السماح لأي كان أن يجر البلاد الى فتنة، ولا صواب اكثر من السعي الجاد لتعزيز السلم الاهلي والوحدة الوطنية. فأي شرعية تستقيم في ظل حرب داخلية لا تبقي ولا تذر، واي دستور او ميثاق يقوم، فيما اللبنانيون منساقون الى جحيم الفتنة الذي عرفوه سابقاً، ويشهدون اليوم تداعياته المرعبة على ارض العراق. اعترف لك بأن للاكثرية شارعها ايضاً، وللحكومة مؤيديها دون شك، ولكن منطق الاشياء يقضي ان المسؤول ليس مسؤولاً عن مؤيديه فقط بل هو مسؤول عن كل المواطنين، وان الله قد خلق الواحد منا بعينين ليرى بهما معاً وليس بعين واحدة، وبأذنين ليسمع بهما معاًُ وليس باذن واحدة، وان الحاكم الناجح في نظام ديمقراطي توافقي كالنظام اللبناني هو القادر على صياغة حلول توافقية ميثاقية لا تستبعد احداً ولا تدير ظهرها لاي فريق من اللبنانيين. اتذكر، يا دولة الرئيس، حين نقلت الاخبار ان قوى الامن تطوق مكتبك في وزارة المالية بعد اعتذار الرئيس الحريري عن تشكيل الحكومة في مثل هذه الايام من خريف عام 1998، كيف حضرنا النائب بشارة مرهج آنذاك وانا ، لنقف معك في تلك اللحظات الصعبة التي وقفت فيها شجاعاً حين قلت وانت خارج من لقاء مع الرئيس المكلف آنذاك الدكتور سليم الحص وطني ليس حقيبة في معرض الرد على سؤال عما اذا كنت ستسافر من لبنان ام لا . واظنك تذكر ايضا وقفتنا الى جانبك، والى جانب الحق والحقيقة والديمقراطية، حين حاول بعض المتجنين اعتقالك بحجة محرقة برج حمود، تماماً كما وقف صديقنا المشترك بشارة مرهج، وكان وزيراً للداخلية آنذاك، بوجه بعض العسكر الذين حاول اقتحام مكتبك في وزارة المالية والتعرض لك، عام 1993 ، فأمرهم بصفته الرسمية مغادرة المكتب فوراً، واتصل من مكتبك المطوق آنذاك، بقيادة الجيش، مستهجناً ومستفسراً عما اعتبره ما يشبه نصف انقلاب على الشرعية والدستور. ولقد دفع الوزير مرهج ثمناً لهذه المواقف الاستقلالية والديمقراطية، اخراجه من وزارة الداخلية في مرسوم منتصف الليل في فيفري 1994 بعد زيارة رئاسية مفاجئة الى دمشق، ثم بوضع الاجهزة الفيتو عليه في لائحة الائتلاف التي كان ممكناً ان تقوم بين الرئيس الحريري رحمه الله والاستاذ تمام سلام امد الله في عمره فأصر الرئيس الشهيد على وجود مرهج في الائتلاف واصّرت الاجهزة على استبعاده، وليس على فرضه، كما قال تلفزيون المستقبل في فيلم وثائقي اذيع مؤخراً. ماذا كان يحركنا آنذاك يا دولة الرئيس! لقد كان يحركنا في هذه الحالات جميعاً حرص على الديمقراطية وحرص على الوفاق الوطني، فقد كنا نرفض أي مساس بالديمقراطية، كما كنا نقاوم أي محاولة لاستبعاد تيار رئيسي في البلاد، فكيف اذا كان التيار المستبعد آنذاك هو تيار الرئيس الشهيد رفيق الحريري وحلفائه. ولقد كنت شخصياً، ورغم صداقتي وتقديري للرئيس لحود، اشد المنتقدين امامه لاسلوب الاستبعاد والاقصاء آنذاك، ولاساليب التجني والابتزاز ضدك وضد عدد من اركان تيار الرئيس الحريري وفي مقدمتهم الاساتذة مهيب عيتاني ونقولا سابا وعبد المنعم يوسف وقد ظهرت براءتهم جميعاً فيما بعد. يا دولة الرئيس اليوم اشعر ان واجبي مصارحتك وانت في سدة المسؤولية، والوطن على شفير الهاوية، واللبنانيون مندفعون، بانفعال العصبية، وبحماسة الغريزة، الى فتنة اين منها كل الفتن والحروب السابقة، مذكراً ان اقصر الطرق الى الفتنة هو ادارة الظهر لما يحمله قسم كبير من ابناء شعبك من مطالب وشعارات. واليوم اشعر ان من واجبي ان اذكرك، وانت تتخذ قرارتك ان لا تتأثر بكلام قاس وغير مقبول قد يصدر بحقك، وهو كلام يؤذي الدعوة الصادقة الى المشاركة في حكومة وحدة وطنية ويحرج اصحابها الصادقين ، اذ كيف يتشاركون في حكومة واحدة مع من يحمل هذه الصفات كلها.. كما المطلوب منك، وانت رئيس حكومة كل لبنان، ان لا تتأثر ايضاً ببعض من هو حولك، يصور لك العناد صموداً، والمكابرة شجاعة، ورفض التجاوب مع مطلب شريحة كبيرة من اللبنانيين بانه حفاظ على الدستور والشرعية. فماذا يبقى من الصمود والشجاعة والدستور والشرعية اذا انفجر الوطن وتناثرت اشلاؤه مع اشلاء الضحايا الذين سيسقطون في كل مكان، وكان أولهم بالامس الشهيد احمد محمود اما نصائح الدعم الدولي فاعتقد انك مثلي تدرك ان الادارات الحاكمة في واشنطن ولندن هي آخر من يحق لهم توجيه النصائح، فلو كانت نصائحهم مفيدة لنفسهم لرأينا نتائج سياساتهم في العراق وافغانستان وفلسطين مختلفة، ولرأينا موقف مواطنيهم من تلك السياسات مختلفاً، بل لرأينا مصيرهم المأزوم والمهزوم داخل بلادهم مختلفاً كذلك. ولتتذكر، يا دولة الرئيس، وانت ابن صيدا الوطنية العربية، انك تعلمت في مدرسة العروبة ان تاريخ امتنا مليء بتلك الوعود المسمومة وخناجر الغدر التي طالما أطل بها علينا حكام الغرب داعمين فنجد انفسنا وقد دفعنا بسببها افدح الاثمان... ولنتذكر دائما، يا دولة الرئيس، مدرسة صديقك العريق، وقائد تيارك الرئيس الشهيد رفيق الحريري، التي كانت مدرسة الاستيعاب والوفاق والتجاوب مع الآخرين، مدركاً ان تجاوب المسؤول مع ابناء شعبه ليس عيباً، او تراجعاً، او تنازلاً بل انه على العكس من ذلك سمو وتعال وحرص على الوطن. قد تقول لي، يا دولة الرئيس، ولماذا لا يحرص الاخرون ، أي المعارضة، على الوطن، فاقول لك بكل بساطة لانك انت المسؤول عن العباد والبلاد، انت الحكومة، انت السلطة، وانت القرار. دولة الرئيس فوت الفرصة على اعداء لبنان الكثر المتربصين به، وبوحدته، واستقلاله، وكرامته، وبمقاومته التي رفعت رأسه عاليا بين ابناء امته واحرار العالم دولة الرئيس انقذ وطننا ومجتمعنا ومستقبل اجيالنا بقرار بسيط، وبسيط جداً، جريء وجريء جداً، شجاع وشجاع جداً، أي القبول بحكومة وحدة وطنية جامعة تعبر عن واقع البلاد وتوزع قواه، تنتصر لروح الميثاق ولدستور الوفاق، وتتوضح من خلالها كل المواقف وكل الادوار، ولا حاجة في قرارك لاي مبادرة من الداخل والخارج لتكن انت المبادرة .. وانت القرار الحر المتحرر من ضغوط الداخل والخارج، ولتتذكر ان الاستقلال الاول لم يكن مجرد جلاء للقوات الفرنسية، بل كان ايضاً هو الميثاق الذي جمع بين اللبنانيين ، ولتتذكر ايضا ان دولة الاستقلال التي اقامها الرئيس فؤاد شهاب انما بدأت بتلك الاستقالة التي ينساها اللبنانيون اليوم التي اقدم عليها الرئيس الشهيد رشيد كرامي بعد ثورة عام 1958، حين شكل حكومة رفضها فريق من اللبنانيين ونزل الى الشارع لاسقاطها، فقدم الرشيد الشهيد استقالته وشكّل حكومته الرباعية الشهيرة منه ومن الراحلين حسين العويني وريمون اده وبيار الجميل رحمهم الله جميعاً. فهل نستذكر في لحظة الانزلاق روح الميثاق فنحمي لبنان ومستقبل لبنان.