جاءت ذكرى ثورة الثالث والعشرين من يوليو المجيدة التي فجرها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر والأمة العربية لا تزال تعيش واقع الاستعمار والتجزئة والاستغلال والتخلف بجميع أشكاله وما زاد في تردي حالة الامة انها تعيش النكبة الثانية باحتلال العراق في أفريل 2003 من طرف الامبريالية الأمريكية والبريطانية بدعم من الكيان الصهيوني وبتواطئ الرجعية العربية بعد ما عاشت النكبة الاولى في فلسطين سنة 1948. ولعل الخطير في هذا الواقع البائس هو استمرار الاستعمار المباشر والعدوان على الأمة في كل من فلسطين والعراق ولبنان والصومال والسودان بمباركة من الرجعية العربية ومن النظام الرسمي العربي الذي أظهر عجزا لا مثيل له في الدفاع عن الحد الادنى للوجود القومي ضد مشاريع الهيمنة الامريكية والاستيطان الصهيوني. وفي ظل هذا الواقع المريض والمتعفن سادت الرجعية العربية وتغولت وباتت تمسك بأوراق اللعبة لصالح الاعداء التاريخيين للأمة وانخرطت الى حد كبير في المشاريع التي رسمتها لها الدوائر الامبريالية والصهيونية التي قامت إملاءاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية على مزيد اقصاء وتهميش المواطن العربي بتكبيله اجتماعيا واستغلاله اقتصاديا وقهره سياسا وتغريبه ثقافيا فارضة عليه أنظمة مستبد ودكتاتورية وبما اننا في هذا النص بصدد تناول ذكرى الثورة الناصرية فسنتعرض الى الرجعية العربيةوعلاقتها بالتجربة الناصرية فكيف تعامل معها عبد الناصر كظاهرة سياسية اولا وفكرية واجتماعية ثانيا؟ وهل كان لديه موقفا نظريا من القوى الرجعية؟ وكيف وقفت هذه القوى من الثورة؟ وهل حاربت الثورة؟ وكيف تصدى لها عبد الناصر عمليا؟ بادئ ذي بدأ لابد من تعريف الرجعية. فالرجعية اصطلاحا مشتقة من فعل رجع أي عاد ويقال رجع الشيء اي صرفه ورّده ويقال الرجعة معناها العودة : مأخوذ من منجد الطلاب لدار المشرق بيروت الطبعة الثانية والاربعون لسنة 1994 الصفحة 232. وأما مصطلح الرجعية سياسيا فيعني كل قوة أو طبقة أو فئة اجتماعية تكون معيقة للتطور وللتقدم بمعنى أنّها تكون النقيض الجدلي للحرية والتحرر والمساواة والعدالة الاجتماعية فهي بفعل طبيعتها تلك عودة للماضي ورجوع للوراء من أجل الدفاع عن مصلحتها الاقتصادية التي تكمن في الاستغلال ومصلحتها السياسية التي تكمن في ضرب المقدرة الجدلية على التطور التي هي شرط التحرر وهكذا تظل الرجعية قوة محافظة تتناقض جوهريا مع الجماهير صاحبة المصلحة الاساسية في التغيير الاجتماعي في سبيل الحرية والتحرر والعدل والتقدم. ومن هذا نفهم ان نظرتها للظواهر والاشياء هي لا تاريخية بمعنى أنها ضد التاريخ اذا انطلقنا من أن التاريخ هو حركة مستمرة تصاعديا نحو المستقبل الافضل للانسان، واي مستقبل افضل من ان يلبي الانسان كل حاجياته المادية والمعنوية وهي جوهر الحرية في الوجود الاجتماعي للانسان.؟؟ فكم عانى عبد الناصر من الرجعية العربية؟ وماذا قال في شأنها؟ وكيف كان الصراع مفتوحا بلا هوادة ضدها؟ في خطابه الشهير ليوم 26 يوليو من سنة 1966 من استاد الاسكندرية في الذكرى العاشرة للقرار التاريخي بتأميم قناة السويس الذي كان من العوامل الرئيسية للعدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر سنة 1956. بين عبد الناصر كيف تتناقض الرجعية العربية جوهريا مع طموحات الشعب فتكون «مبسوطة ومرتاحة» بل وأكثر من ذلك تكون شامتة فتعلن صراحة عن دعمها للاعداء في ضرب الثورة. ويعطي مثالا على خيانة الرجعية العربية لقضايا الأمة في التحرر فيسوق في هذا الإطار مأساة نكبة 1948 نموذجا يقول: «وقلت ان احنا مش عايزين تعود مأساة 48. في سنة 48 كانت الخيانة العربية.. كان هناك اجتماعات قمة عربية وقيادة عربية موحدة، ولكن الرجعية العربية والخيانة العربية تآزرت مع الاستعمار وتآزرت مع اسرائيل، وكان فيه اجتماعات بين إسرائيل وبين مندوبين إسرائيل وبين الملك عبد اللّه في سنة 48 ، في الوقت اللي احنا كنا بنحارب فيه في فلسطين، وانسحب جيش الأردن في سنة 48 علشان يفتح المجال لجيش إسرائيل أن يواجه الجيش المصري لوحده. حصلت خيانات في سنة 48، ما احناش عايزين خيانات نقابلها أيضا بعد 18 سنة من مأساة فلسطين سنة 48، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ولا يمكن ان الخيانة نقاسى منها مرتين لكن في العام الماضي ظهرت الرجعية العربية على حقيقتها.. لم تستطع أبدا ان تخفي نواياها.. إيه اللي لقيناه السنة اللي فاتت؟ إيه اللي شفناه السنة اللي فاتت؟» كما أبرز في خطابه الشهير الى أي حد تكره وتحقد الرجعية العربية على الثورة وتنسق مع العدو الصهيوني لتنال منها فيقول: «وجدنا أن الرجعية العربية تكرهنا أكثر مما تكره إسرائيل، ووجدنا أن هناك من ينسق للرجعية العربية وينسق لاسرائيل، ووجدنا أن هناك من يعد الرجعية العربية بأنه يحميها من اسرائيل، وفي رأينا انهم قصار النظر، لانهم لا يعرفون أن هذه الحماية حماية مؤقتة، وأن قوة الثورة العربية إذا سقطت لن تعود لهم أي قيمة...» أليست هذه استراتيجية الرجعية العربية منذ أمد بعيد أي منذ ما قبل زمن الثورة وأثناءها وبعدها؟ أليست أخطر على الأمة العربية من الاستعمار والصهيونية والامبريالية؟ أليس الاستعمار عدوا واضحا لا غبار عليه؟ أليست الحركة الصهيونية هي العدو التاريخي المعلن والمكشوف للجماهير في كل قطر وفي كل مرحلة؟ أليست الامبريالية هي أيضا عدوا سافرا تتجلى مشاريعه التخريبية في كل برامجه وتحالفاته الاستراتيجية مع العدو الصهيوني؟ كانت هذه أسئلة كلها استنكارية تتضمن الجواب، بنعم، للتأكيد على الطبيعة العدوانية الواضحة للعدو الصهيوني والاستعمار والامبريالية. اذا أليس حري بنا ان نتسائل: أين يكمن الخطر الحقيقي على الثورة العربية وعلى مصلحة الامة في التحرر والاشتراكية والوحدة؟ أليست في الرجعية العربية الماسكة بزمام الحكم في كل قطر عربي؟ أليست في من يكمم أفواه الجماهير العربية في كل مكان؟ أليست الرجعية العربية المتسلطة على رقاب الشعب هي من يطبق الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المملاة من طرف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للانشاء والتعمير وغيرها من المؤسسات المالية والاقتصادية الاحتكارية؟ أليست الرجعية العربية الممسكة بالسلطة هي المسؤولة عن تفقير الجماهير وتجويعها وتجهيلها واستغلالها؟ أليست الرجعية العربية هي من يستولي على مراكز القرار في الدولة فتحول مصلحة الوطن والمواطن الى مصالحها المادية والسياسية وتضرب عرض الحائط بمطالب الجماهير في الحرية والعدالة وتكون السد المنيع ضد كل تحول او تغيير ثوري. وتقضي على كل ارادة ثورية بسياسة الاحتواء او بالقمع والارهاب؟ أليست هي من سوّق ويسوّق لمشاريع الاعداء فنجحت بذلك في تطبيق ما عجز عنه العدو سواء مباشرة عن طريق الحروب العدوانية او بطريقة غير مباشرة بالتخريب من الداخل؟ ألم تمرّر الرجعية العربية سياسة التطبيع باسم الصلح مع العدو الصهيوني حينا وباسم مفاوضات ما يسمى بالسلام المزعوم التي صادقت عليها قمة بيروت أحيانا أخرى؟ ألم تنجح الرجعية العربية في تعميم قطار التطبيع حيث فشل العدو في الدعاية له؟ ألم تكسر الرجعية العربية حاجز الخوف من التطبيع حتى اصبح التطبيع أنواعا منها الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي؟ أليست الرجعية العربية هي من كان السبب الرئيسي في غزو العراق أولا واحتلاله ثانيا؟ فهل يوجد بعد هذا العرض شك حول الدور الخطير الذي تقوم به الرجعية العربية في تأمين مصالح الاستعمار والصهيونية والامبريالية من أجل ان تحافظ على سلطتها وتستبدّ بنظام الحكم؟ أليس من واجب كل القوى التقدمية ان تعري وتكشف طبيعة الرجعية العربية التي ما انفكت تتآمر تاريخيا على الوطن والشعب؟ هل توجد قوى أخطر من الرجعية العربية الخادم الامين لمصالح الاعداء؟ هذا ما أردت تناوله في هذه القراءة المتواضعة بمناسبة الذكرى السابعة والخمسين لثورة يوليو المجيدة فالمعذرة من السادة القراء ان أطلت عليهم فعذري أنني أردت ان أخرج عن العادة المألوفة في تناول ذكرى الثورة وأطرح قضية نادرا ما وقع تناولها في التجربة الناصرية.