تذمّر الفرسان من غلاء تكاليف العرس في هذ الزمن البخس خمسة رجال أو أشباه رجال يلتقون كل خميس في متاهة مقهى «الفلورنس» يجترّون أيامهم الخوالى يهيمون بأحداث العالم بدء بالازمة النووية في بلاد آيات الله نجاد وانتهاء بإرهاب المحاكم الشرعية في القرن الافريقي وقليلا ما كانوا يخوضون في تفاصيل حياتهم اللصيقة بجلودهم وعظامهم التي تنخرها احلامه مجنّحة لا تنتهي او يُحَد لها افق. قال «مجدي» وهو يشعل فتيل تبغه الرخيص: «استلمت وظيفتي منذ نهايات القرن البائد ولم أدّخر بعدُ نصف المعلوم الافتراضي للعرس وقاطعه وجدي صاحب نظرية طلائعية في التاريخ لا تضاهيها سوى نظرية العلامة ابن خلدون ومفادها ان التاريخ تحرّكه ثلاثة سوائل: الدّم والمنيّ والعرق. قال «وجدي» مقهقها العرس صعب كالكاباس وعسير كانتظاري راتبا شهريا يخصم نصفه ديونا متخلدة بذمّتي. لكن «رشدي» الشاب الخمسيني لم يهتزّ له رمش قنوع بإقامته منذ حصار بيروت الصيفي في مدائن العقل اليوناني والالماني لا ينفك الخمسيني الازعر يلوك «هايدغر» ويجتز فتات التفكيك الذي دنا من ضفافنا متأخرا جدا مشحونا في بواخر هرمه ما باله يزأر كليْث منهك: «حريّ بي تأجيل قراني الى ما بعد الحداثة العربية»: لاذ الفرسان ببرهة سكوت قبل ان يستأنفوا هديرهم حتّى أقبل «محمود لحْبل « في كسوته الانيقة الزرقاء الداكنة بدا لي «محمود» كصاروخ كوري قابل للاطلاق صوب سماء مغبّشة. كانت نحافته مخيفة مما أثار سخرية صديقه الحميم «مجدي» فعلق: «محمود يشرب كقماش رخيص». وبادره «رشدي» معاتبا إيّاه عتابا لطيفا وهو يمصّ غليونه: «حياتك يا رفيقي كسرد متقطع وعمرك من عمر الزيتون اخشى ان تنسى بنطلون الجينز وحذاءك المائل الى البياض والابتسام لكثرة ما جاب من الحارات الشعبية بأنهجها الضيقة العفنة جريا وراء ام السفساري. والحقيقة ان «محمود لحبل» إسم يليق تماما بحامله كان يبدو طويلا اكثر من اللزوم ونحيفا اكثر من اللزوم كحبل في قاع بئر عميقة ألقت به ذراع موشومة تفتش عن سطل قديم وقع في بؤرة الماء الغزير. والحقيقة أيضا انه اليوم غير الامس بعد أن جاب بلادا كثيرة كخبير في علم المناخ لم يأبه بكلامه وحسبه لغوا ألفه منذ كان طالبا في مشرب الكلية او على ربوة مخيم رأس الطابية الشهير لكنه لم يفوّت الفرصة ليثأر لنفسه من الفرسان فيتحداهم قائلا:»كان عرسي أيسر من شرب كأس نبيذ في ليلة قاتمة أو انكسار زورق على الصخر المهمّ آن تُهونوا الامر على قلوبكم وان تيسّروها حتى تسهل. أنا احمد ربّ الكعبة وحاميها من الاذى وقد يسر لي زيجتي المباركة كان كل شيء مسهل فيه ربي تكفل والدي المرحوم باللحوم فاقتنى عجلا سمينا من قطيع جارنا بثمن مناسب وأردفه بكبش اغتصبه اغتصابا ليّنا من عند أختي العانس «شفيعة». واشترى بثمن صابة الزيتون الشحيحة مؤونة النهارات والليالي التي استغرقتها الاحتفلات حتى تحوّلت بيت العولة إلى ما يشبه دكانا للمواد الغذائية يعجّ بكل اصناف المعكرونة وأنواع التوابل والمعلبات والخضر الجافة والمشروبات الغازية ومختلف الأواني والكؤوس والصحون والقيروانيات. أبي «سي بوزكري» لم يسْهُ حتّى على مواد التنظيف والمناديل لمسح الأيدي بعد الأكل فأشادت جدّتي «محبوبة» بابنها واصفة إيّاه بالمرأة الحرّة.. أمّا بيت النّوم فقد تبرّعت بها شقيقتي المحامية المتحيّلة على بعض حرفائها الدراويش الذين نوّبوها في قضاياهم الشغلية إثر طردهم طردا شنيعا من عمالة هشة لا تكفيهم سجائرومكالمات جوّالة. وحتّى اختصر الحكاية ونتفرّغ لمحنتنا يا رفاقي، جهّز الأهل كلّ مستلزمات العرس كنت أتفرّج ولم أنفق سوى معلوما يسيا لاسعاد واستثارة بعض خلاّني لليلة وحيدة. كان كل شيء ينزل كحبال من السماء ولم يوقف سريان فقرات المهرجان أيّ مانع مهما كان تافها، الأمور تنساب كجدول عسل في بركة آسنة وأنا أكاد أطير طربا لعوبا فعن أية عوائق تتحدّثون يا وجوه اللعنة والنحس... كنت كالمسطول داخلا في الرّبح خارجا من الخسارة تغلّف اللامبالاة ساعات أيامي الاخيرة قبيل زفافي الى عروسي التي وهبتها لي الكراماتُ وساقتها إلى أعتابي عاتيات الزّوابع، بلغ المهرجان يومه الاخير فدارت عقارب الساعة بسرعة جنونية حتى كادت تجهض الكرنفال، إذ بغتة وجم رجل مرموق كان صديقا خالصا لوالدي وفور واقعة الموت ألغى الفصل الأخير من العرس بقرار لا يقبل النّقض أو حتى مجرّد المناقشة احتراما ووفاء لأواصر الصداقة المحضة التي كانت تصل والدي بالعمّ «الطاهر». أما أنا فقد نزلت الوفاة على فؤادي بردا وسلاما وغمرتني احاسيسٌ غامضة عصيّة على التفسير والفهم لا هي شماتة بالرّاحل ولا هي إعجاب بقيمة الوفاء والاخلاص للصداقة. إحساس انتابني فاحتميت به كما يحتمي مريض بلحاف دافئ حتى داهمنا الليل وداهمتني معذّبتي بلا طبول ولا مزامير ولا شموع... دخلتُ على «نعيمة» أواخر المساء غريب الوجه محموم المشاعر يلفّني التبرّم من كل شيء...