ليس خافيا على عاقل أن «المؤسسة السلفية» لا تكرس سوى الثقافة الخاضعة لشعارات من قبيل «المحرم» و»للكبار فقط» و»ممنوع على من هم اقل من ستة عشرة عاما»... ثقافة تعتبر الحبر مادة قابلة للانفجار، ولذلك فهي لا تتوانى في التحذير منه والتنبيه من مخاطره القاتلة، فلا تقترب منه ولا تترك أحدا يقترب منه، وتسعى جاهدة لإقصاء ورفض كل سيل قد يخرج عن مجراها الرسمي، ويحيد عن مسار الانضباط والالتزام بخطوط التسبيح والتمجيد. في هذا السياق، سياق المنع والتحريم والتغريب والتكفير، وبعد رواية الخبز الحافي لمحمد شكري، شهد الوسط الإعلامي والثقافي في المغرب سجالاً ساخنا مع بداية الموسم الدراسي، تمثل في المطالبة بمنع تدريس رواية «محاولة عيش» للروائي الراحل محمد زفزاف التي أقرّت منذ ثلاث سنوات في منهج السنة التاسعة من المرحلة الإعدادية. جاءت هذه المطالبة بعدما نشرت صحيفة «التجديد» الناطقة باسم حزب العدالة والتنمية الإسلامي في 25 سبتمبر 2009، مقالاً بعنوان «استنكار اعتماد رواية لا أخلاقية...» تطالب فيه بإبعاد الرواية من المناهج الدراسية لأنّ أحداثها «تدور في الحانات والبارات... وتحرّض على تعاطي الخمر والتدخين والزنا وعقوق الوالدين». رواية «محاولة عيش» لرائد الكتابة الواقعية المغربية محمد زفزاف، تسرد قصة حميد الذي أجبر وعمره ستة عشرة عاما وبسبب فقره وكسل والده وتسلط أمه، على العمل بائعا للصحف، فتتشعب معاناته اليومية بدءا من الشتائم التي يتلقاها من صاحب شركة التوزيع، مروراً بشتائم حراس الميناء والسفن الغربية الراسية على الشاطئ، التي يحاول الصعود إليها لبيع الصحف للأجانب طمعاً في عملة صعبة أو علبة سجائر مستوردة، ولا يجد الملاذ إلا عند اليهودية صاحبة المطعم الفخم أين تسمح له بأكل بقايا الطعام. حميد قاوم الفقر والحياة بالعمل، حاول ألا يسكر، حاول ألا ينجر خلف بغي، لكن في النهاية كان ضغط الفقر والمجتمع أكبر من كل محاولاته التي فشلت... وما حميد إلا وجها من ملايين الوجوه الهائمة في الشوارع المغربية والمغاربية والعربية. هكذا هي «السلطة السلفية» المتسربلة في عمائم الجهل وجلابيب الدوغمائية لا تتقن سوى إخماد صوت المنبوذين والمهمشين من عمال ومشردين وفقراء، ولا يسع قاموسها الفضاءات الهامشية مثل دور الصفيح والأحياء الشعبية، ولا تعترف لا بنقد القيم السلبية والظلم والطغيان، ولا بالدعوة إلى الحرية والعدل والمساواة واحترام الإنسان. ويأتي منع رواية «محاولة عيش» لمحمد زفزاف بعد منع العديد من الروايات والكتب الفكرية والدواوين الشعرية وحتى الرسوم الكاريكاتورية (ناجي العلي)، ولعل أقرب العناوين الممنوعة إلى الذهن رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، عزازيل ليوسف زيدان، سقوط الإمام لنوال السعداوي، وليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر، نساء عند خط الاستواء لزينب حفني، روايتي الخبز الحافي والشطار لمحمد شكرى، الحريم السياسي لفاطمة المرنيسي، الشيطان والرحمان لفراس السواح، رياح الشمال لرياض نجيب الريس، السجينة لمليكة أوفقير، العار لتسليمة نسرين، الآيات الشيطانية لسلمان رشدي، فرسان بلا معركة للصادق نيهوم وغيرها من الكتب والمؤلفات الكثيرة... إن هذه «الغارة السلفية» على رواية محمد زفزاف هي هجوم على الأدب المغربي بصفة عامة، بعد أنّ خطت الأوساط الأدبية المغربية خطوات هامة في إذابة تغريب الأدب المغربي على أرضه، ومصالحته مع المنظومة التربوية ... إن مثل هذه الممارسات لا تأكد إلا أن المصادرة والمنع والتكفير دليل عجز وفشل وفقر معرفي وجهل... لا أكثر ولا اقل... وان حرية الفكر والإبداع واحترام الذات البشرية تبقى وحدها نبراس الأمم التي تحترم مبدعيها وشعوبها...