الرياضة صقل للمواهب الفكرية وصقل للمواهب الجسدية وعامل من عوامل التقارب والتآلف والتحابب كنّا نظنّ أنّ هاته التعريفات المدرسية صالحة لكل زمان ومكان وان ما تعلمناه على مقاعد المدارس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإذا بالواقع يكذب تلك التعريفات البدائية. فالآن وقد تكشّف الوجه البشع للشوفينية المقيتة فإنّ الأبواب مشرعة على كل الاحتمالات وكلّ الأشياء تبدو واردة. الرياضة عموما وكرة القدم خصوصا صارت شحنا وتفريغا. شحن إعلامي، مدروس وموجّه تسهر عليه وترعاه جهات رسمية، وتحقنه، على جرعات مدروسة ومتتالية، الكلاب المسعورة والأقلام المأجورة التي وجدت في الكرة مرتعا خصبا، تنفث من خلاله سمومها باعتماد حملات مغرضة تهدف الى زرع الحقد والكراهية والبغضاء والشوفينية القاتلة. وتتقرّب بواسطته زلفى لأهل الحسم والقرار مقابل تحقيق مآرب ومصالح شخصية. وتفريغ تمارس من خلاله الجماهير المسحوقة فكرا وساعدا تنفيس احتقان كان يمكن أن يتحوّل إلى تذمّر شعبي يطال رموز السلطة وأزلامها. إنّها الردّة. الإدمان على كرة القدم ومناصرة فريق، حتى ولو كان محلّيا ويلعب في الدرجات السفلى، ولّد تعصّبا أعمى ومقيت، وحوّل لعبة كرة القدم الى »إيديولوجيا شعبية« للطبقات المسحوقة أساسا ومعهم بعض المثقفين أو أشباه المثقفين الذين يحوّلون مجرّد هزيمة إلى كارثة قومية ونكسة تاريخية، ويحوّلون مجرد انتصار هزيل إلى نصر مؤزّر وفخر عظيم ستذكره الأجيال الحاضرة والقادمة وحتى التي ماتت في زمن الطوفان. وفي كرة القدم، وجدت بعض الأنظمة ضالّتها المنشودة في تخدير شعوبها وإلهائها عن قضاياها المصيرية وهمومها اليومية، باعتماد لعبة كرة القدم كمسكّن ومهدئ للآلام الاجتماعية التي تولّدت عن سياسات اقصائية، همّشت فئات عريضة من شعوبها، وتجد في الأقلام المأجورة والعقول العقيمة خير خادم لما تبيّت له من خلال »أدلجة« كرة القدم. لقد تحوّل أنصار ومحبّو كرة القدم إلى قوى سياسية فاعلة تخطب ودّهم الزعامات الرسمية والمعارضة على حدّ السواء وتتسابق في الظفر برضاهم وولائهم وتوفّر لهم المنابر الاعلامية التي لا تتوفّر للرموز الفكرية والثقافية لبعض الشعوب. لقد صارت كرة القدم تستحوذ على اهتمام وفكر أغلب الفئات الاجتماعية وخاصة المسحوقة منها. وكلّما كان المستوى التعليمي والاجتماعي متدنّيا، إلاّ وبلغت هستيريا الانتساب الى فريق ما، أعلى درجات التعصّب. ويتحوّل الفريق، بلاعبيه وألوانه الى رمز للعزّة والكرامة وتحقيق الذّات، ويُخيّل إلى الشخص المعدم والمسحوق والمهمّش فكريا واجتماعيا أنّه بصدد تحقيق آماله وطموحاته، ويتحوّل نجوم الفريق إلى الهة كالهة الجاهلية، تُعبد وقت اليسر وتُؤكل زمن العسر، كما فعل عمر ابن الخطاب مع إله التّمر الذي كان يعبده وقت اليسر وعندما تشتدّ به فاقة الجوع يأكله. لقد صار المحبّ، بفعل التأثير المدروس الذي يمارس عليه إعلاميا، يرى في انتصار فريقه تحقيقا لذاته ولكيانه وينسى جميع إخفاقاته الدراسية والمهنية والاجتماعية، وكل المظالم التي تعرّض لها ويتعرّض لها. وفي المقابل عندما يخفق الفريق تتحوّل الهزيمة إلى انتكاسة نفسية كبيرة تؤثّر سلبا على مردود الشخص وعلاقاته بمحيطه المباشر، وتحيله الى شخص سلبي وعدواني. وفي كلتا الحالتين فإنّ الفوز أو الإخفاق يولّدان نوعا من كره الآخر واحتقاره واستصغاره ومعاداته، وذلك بالإنتقاص من شخصيته والتحرّش به، والخدش في كرامته وهتك أعراضه، بل وتؤلف لذلك الأغاني العدائية والتي يتمرّن الأنصار على تأديتها بطرق تؤجّج نار الحقد والكراهية، وتشحن مؤديها بشحنات وموجات من العنف الذي يستهدف الآخرين في أجسادهم وممتلكاتهم. ويدخل الإعلام الأصفر على الخط بأن يهوّل الأمور، فيضخّم صغارها ويقزّم عظامها، ونظرا للمستوى الثقافي والتعليمي الاجتماعي المنحطّ لأغلب اللاعبين ان لم نقل جلّهم فإنّ تصريحاتهم وردود أفعالهم غالبا ما تكون انفعالية وآنية تُستعمل فيها التعابير المسيئة للآخر والتي يستغلّها الإعلام الأصفر لينفخ في أتونها. ويشتدّ الاحتقان الذي بتفاعله مع احتقانات أخرى ذات جذور اجتماعية كغلاء المعيشة والبطالة والفقر والجهل، يولّد عنفا لفظيا ومعنويا وماديا يؤدّي الى التراشق بالكلام والشعارات تمهيدا للتصادم والتشابك بالأيدي الذي قد يؤدي إلى القتل. وتداعيات مقابلة مصر والجزائر، في إطار التصفيات المؤهلة لكأس العالم بجنوب افريقيا، لا تحيد ولا تشذّ عن هذه القاعدة، قاعدة الشحن والتفريغ. فلقد عمد الإعلام إلى شحن جماهير كرة القدم بجرعات عدائية من الكراهية، طالت الرموز التاريخية والثوابت القومية، وإذا بمجرّد مقابلة في كرة القدم، تتحوّل إلى »أم المعارك«، تُستنفر فيها كل الفضاءات الإعلامية، والشخصيات الرسمية والفنّانين وأشباه الفنانين وآلاف الجماهير التي تمّ شحنها و»برمجتها« إنّه زمن الردّة. مقابلة في كرة القدم جعلت الورم الخبيث الذي كان مستورا يظهر جليّا للعيان. فقد هبّت الكلاب المسعورة، تغذّي نار الفتنة وتدعو إلى الثأر والإنتقام لكرامة مهدورة وشرف مزعوم، واستبسلت في تهييج الشارع، الذي كان محتقنا أصلا نتيجة ظروف اجتماعية بائسة ومتردية. وإذا بالأفواه التي كمّمها الجوع والجهل والطغيان تصرخ وتنفجر ولكنّ صراخها في غير محلّه، فقد تمّ تحويله بمكر ودهاء إلى عدوّ خارجي وهمي. في الدول المتقدّمة والشعوب المتحضّرة أمثال هؤلاء الصحافيين الذين أجّجوا نار الفتنة، يقادون إلى المحاكم الشعبية ويحاكمون علنا بتهمة التآمر على تاريخ مشترك وهموم وقضايا مشتركة وآمال وتطلّعات مشتركة ويحاكمون بتهمة الكذب على شعوبهم وتزوير وقائع ثابتة ومن أجل التحريض الصريح والدعوة الصريحة إلى القتل العمد ويعدمون في الساحات العمومية لأنّهم دعاة فتنة وكراهية ودعاة دمار وسلب ونهب وقتل ولأنّهم عار على صاحبة الجلالة. انّها الردّة. كرة القدم صارت »الايديولوجيا« الوحيدة المشتركة بين بعض الأنظمة وبين شعوبها، رغم اختلاف المآرب والأهداف فالأنظمة تهدف من خلالها إلى الإبقاء على شعوبها في درجة من الحيوانية والتفكير بقبضة الأيادي بناءا على ما تقرّره وتفرزه إرادة الأقدام عوضا عن العقول النيّرة التي ميّزنا اللّه بها على جميع المخلوفات. والجماهير تجد في كرة القدم صورة مشوهة للتعويض عن خيبة تحقيق آمالها وتطلّعاتها التي لم تتمكّن من تحقيقها. وبئس أمّة تجعل من الفاشلين في دراستهم رموزا يقتدى بها. وبئس أمّة تنساق وراء عواطف صنعتها أقدام منحرفيها، فالذين يصولون ويجولون اليوم في ملاعب كرة القدم، هم أولئك الفاشلين سابقا في دراستهم الابتدائية. ولم ولن تتقدّم الشعوب والأمم بانجازات أقدام فئة من شعوبها حتّى ولو ترشّحوا لكأس العالم والتاريخ يذكر أفلاطون وسقراط وكونفيتشيوس وابن خلدون من أعلام الفكر ويسقط من سطوره الذين تقاتلوا وتصارعوا الى حدّ الموت في حلبات المصارعة. والحضارة تدين ل »أثينا« بعلومها ومعارفها ولا تدين ل »سبارتا« بحروبها وفنون قتالها. إنّها الردّة. تتنافس الشعوب المتحضّرة، في شتّى ميادين العلم والمعرفة، ويتنافس بعض العرب في تنظيم سباقات للكلاب والجمال والبغال والحمير، واستقدام لاعبين »خردة«، استغنت عن خدماتهم أنديتهم الأصلية، فلم يجدوا خيرا من ملاعب بعض العرب يمارسون فيها هواياتهم مقابل الملايين من الدولارات تصرف لهم عدّا ونقدا. ومن سنوات خلت تنافست الدول الغربية باستخباراتها وجواسيسها وإغراءاتها المادية والمعنوية في الفوز بخدمات العلماء الروس في الذرة والفيزياء والطب بعد أن تفكّكت أوصال الإمبراطورية السوفياتية الى دويلات وكعادتهم فوّت العرب الفرصة التاريخية في الظفر بخدمات وخبرات علماء »جاهزين للإستعمال فورا«، وتنافسوا في استقدام مومسات موسكو ولينينغراد. ولذلك يضحك العالم من جهل أمم هكذا حالها، لأنّها الردّة. وتتنافس الأمم في اقتسام هذه الكعكة الشهيّة التي إسمها العرب، وما وقع بين الجزائر ومصر يندرج ضمن هذا السياق. إنّه زمن الردّة.