كلا ليس ما يحصل اليوم بين مصر و الجزائر مسألة سخيفة و لا لعب عيال. و لا هو منحصر بكرة القدم و لا بالرياضة و لا بأي شكل من أشكال التنافس الرياضي. المسألة أعمق و أخطر بكثير و تقف خلفها أجهزة استخباراتية و أجندات أنظمة. واذا كان النظام الجزائري عبر الصحافة الجزائرية افرط في الشوفينية في محاولة لتجيير نجاحات كروية لمصلحة شرعية النظام [...]، الا أن النظام المصري هو من صب الزيت على نار خفيفة فجعلها تلتهب كسعير جهنم. فالاعلام المصري متفوق بدرجات تأثيره وانتشاره على الاعلام الجزائري و الخطاب الذي تم تقديمه للشارع من قبل هذا الاعلام كان هدفه ربط نجاح محتمل للفريق المصري بمساعي مبارك الحثيثة لتمرير السلطة الى ابنه جمال خلال المباراة التي دارت في القاهرة. كانت الكاميرا تقفز بين الملعب و بين المقصورة الرئيسية حيث جمال مبارك وشقيقه علاء حتى خيل لبعض الناس أن جمال مبارك هو مدرب المنتخب وليس حسن شحاتة [...]. لم أستطع و أنا من يحب الكرة جدا و يشجع مصر منذ أن كان طفلا صغيرا أيام الخطيب وطاهر أبو زيد و شوبير و الغزال الاسمر علاء ياسين و فاروق جعفر، لم أستطع الا أن أتمنى فوز الجزائر نكاية بالنظام [...] وبالجمهور الذي يصفق له كما يصفق للمنتخب و بالفنانين الحاضرين الذين يوجهون التحية لمبارك «راعي الرياضة في مصر» مع كل مقابلة. رغم أن مصر هي أقرب لي من حبل الوريد و حبها يجري في عروقي لم أستطع الا أن أتمنى خسارتها. لكن مصر فازت في القاهرة و تركزت الكاميرا على جمال مبارك و كأنه هو من سجل هدف الفوز و ليس عماد متعب. الرسالة واضحة «شوفو يا مصريين من يحقق لكم الانجازات». و بدأت أتابع البرامج الحوارية على التلفزيون المصري لأشهد أكثر استعراض تاريخي في الزهو بالذات و الشوفينية الغبية و التعصب الأعمى و الشعور بالفوقية لم أشهد له مثيلا الا في بعض حلقات الردح اللبناني أيام صعود نجم حراك 14 آذار المقبورة الى غير رجعة، وكما ينتسب اللبنانيون الشوفينيون الى الفينيقيين بدل العروبة يتباهى المصريون الشوفينيون بانتسابهم للفراعنة و يتفرعنون، مصر أم الدنيا، ولا يضير ذلك أنها تعيش على المنح الأميركية و معظم شعبها أمي و عاطل عن العمل و يأكل «شوربة كراعين الدجاج» حتى تنزل الشوربة من أذنيه، مصر أم الدنيا لأنها فازت على الجزائر و تنتج رقاصات تماما كما أن لبنان هو أبو الدنيا و أعظم بلد في العالم لأنه أنتج هيفاء وأكبر صحن تبولة في العالم. تتضخم الهوية المسماة «وطنية» في زمن الردة والانحسار و تعتاش على الترهات و كره الآخرين و تغذيها الأنظمة وتنميها لأنها لا تستطيع تخدير الشعوب الا بها. مصر أم الدنيا و لذلك لا بد لمصر من أن تفوز. النظام كان يدرك طبعا أن سيناريو الهزيمة ممكن و لذلك حضر نفسه لتوظيف الهزيمة كما كان سيوظف النصر. اذا انتصرت مصر فالانجاز المباركي واضح, و لكن عندما خسرت مصر المباراة الفاصلة في السودان أمام فريق جزائري أقوى و أذكى ويستحق تمثيل العرب في المونديال، كان لا بد من تحويل الأمر الى مظلومية كبيرة تجمع المصريين حول النظام ضد العرب و العروبة و مع جمال) اللي حيجبلنا حقوقنا) تماما كما كان النصر ليجمعهم. فتم تضخيم بعض المناوشات بين الجمهورين و هي للاسف أمور تحصل كلما لعبت مصر و الجزائر أو الجزائر و تونس أو المغرب و الجزائر لأن هذه المباريات بكل بساطة مباريات «دربي» مشحونة مثل مباراة هولندا و ألمانيا التي دائما تثير المتاعب أو مباراة انكلترا و اسكوتلندا. فكلما أقتربت الأواصر في كرة القدم كلما حمي الوطيس و كلما استغل بعض المشاغبين الأمر. الا أن النظام المصري و من خلال اعلامه المأجور و الموبوء ضخّم الموضوع و صوّره كأنه حرب خاضتها الجزائر بجيشها ضد الجمهور المصري. وبدأت حفلة الردح عن المظلومية و «المسكنة» التي شارك بها عشرات الفنانين والكتاب و الصحفيين ولسان حالها واحد « لازم وقفة» « دول ناس همج» و» من اليوم ورايح لا عايزين عروبة و لا اسلام احنا حنبص على نفسنا و مصالحنا» يعني و كأن النظام المصري منذ السادات كان نبراسا عروبيا و ليس عميلا للأميركان و مرتهنا للصهاينة من خلال معاهدة العار، وكأنه لم يقفل معبر رفح مجوعا الأطفال خدمة للصهاينة و يخنق المقاومة و يعتقل المقاومين الأبطال و يعذبهم حتى الموت. و كأنه لم يخرب قمة غزة في قطر ووزير خارجيته يصيح «مصر دي حاجة كبيرة» فجاءت صيحات «كورس» النظام من اسعاد يونس الى مجدي كامل الى العشرات ممن استضافهم ابراهيم حجازي و عمرو أديب لتردد هي الاخرى «مصر دي حاجة كبيرة». لا يا سادتي، مصر منذ السادات تقلصت حتى اصبحت اليوم حاجة صغيرة جدا جدا جدا. نظامها يدفعها كل يوم الى الأعماق أكثر وشعبها المخدر بالكرة وغيرها باستثناء عدد قليل من النخب القومية و الاسلامية ينجر وراء هذا النظام و يصفق له وسينتخب جمال مبارك و يرقص له في الشوارع. مصر التي نحب في «الكوما» منذ «كامب دايفيد»، أخذها حبيبنا عبد الناصر معه عندما فارقنا قبل الموعد و قبل أن يترك خلفه من هو أمين عليها. وعليكم أن تعرفوا جيدا أن «الأمة العربية دي حاجة كبيرة و كبيرة قوي» وأنها أم مصر و أبوها و مصر من دون الأمة العربية لا تساوي شيئا و اذا كان في مصر من العرب 80 مليون فخارج مصر من العرب أكثر من 250 مليون، و أكبر و أعظم ما في الأمة العربية هي مقاومتها الباسلة التي تجعلها أكبر و أكبر، في فلسطين أسود حماس و في لبنان نسور حزب الله و في العراق اشاوس كتائب العشرين و الجيش الاسلامي و قوات أبو الفضل العباس «العروبة دي حاجة كبيرة و كبيرة قوي» ومن يريد أن يكبر يجب ان يعود الى حضنها و يهتدي بهدي قوميتها و نضالها و الا خرج من التاريخ من أصغر الأبواب واندثر كما اندثر الفراعنة والفينيقيون وغيرهم من الهويات التي ذابت في نسيج هذه الأمة ولم يعد لها وجود خارجه.