تحدى الفقر والفشل. إنه «قاتوزو» الحياة هكذا يرى نفسه في صفاءها الخالص.البرتوكول عدوّه الأول والكفاح صديقه وبوصلة الطريق. لأجل هذا وغير هذا كان لقاءنا بالدكتور الهادي السعيدي احتفالية خالصة بمآثر الرجل وإسهامه الغزير في الحقلين الثقافي والعلمي. لقاء ربما اختزل ماجاء على لسانه من إضافات ودراسات تاريخية واجتماعية حول الهجرة وتاريخ المهاجرين التونسيين و«تحديات المهاجر» في أدق تفاصيلها وهو الذي عاش ظروفه وألّف 8 كتب بالتمام والكمال حول التاريخ وعلم الاجتماع الخاص بالمهاجرين التونسيين والعرب بصفة عامة وفي حواري معه الذي استفاض خلاله في سرد الوقائع وتبويبها مثلما نفحنا بعض النوادر الطريفة. وددت للمكالمة أن لا تنتهي بيننا ففي الرجل أيضا أدب رفيع وتواضع جمّ ومرح مُحبّب إلى النفس فيه من صفاء المعدن ما فيه من غزارة السجل وثراء الرصيد .الدكتور الهادي السعيدي الحاصل على دكتوراه أولى (من جامعة ليل) وثانية (من جامعة باريس) يحمل في قلبه هواجس وطن مثلما سيحمل على صدره وسام التكريم لغزارة إنتاجه المعرفي وحرصه على تحقيق «مزاوجة شرعية» بين هوية مغاربية وأخرى فرنسية. علاوة على سعيه في إعادة كتابة تاريخ تونس وخاصة التاريخ الإستعماري ومحاولة إدماج العلاقة التونسية الفرنسية في البرامج التدريسية في فرنسا. الدكتور الهادي السعيدي في سطور الدكتور الهادي السعيدي من مواليد 1957 وهو أصيل منطقة النفيضة متزوج من فرنسية وأب ل3 أبناء (إيناس,مهدي وينيس). درس بالمعهد الثانوي بالنفيضة وحصل على شهادة الباكالوريا سنة 1978 من أحد المعاهد الحرّة استهلّ تعليمه العالي بجامعة 9 أفريل ودرس لسنتين(اختصاص تاريخ وجغرافيا) قبل أن يضيف سنة أخرى بجامعة منوبة.المنعرج الحاسم في حياة الدكتور الهادي السعيدي كان في صائفة 1981 لما سافر إلى بلجيكا للدراسة والتحصيل .حول هذه التجربة يقول د.الهادي بنبرة امتزجت فيها صورة الكفاح البِكر بشجونها وحنينها:« كنت أرغب في التسجيل بإحدى الجامعات لكن الأمر تطلب أموالا لم تكن بحوزتي آنذاك. بعض التونسيين أشاروا علي بالتوجه إلى مدينة ليل الفرنسية (يفصلها 100 كم عن بروكسال) ثم يضيف بتواضع الكبار و بمرح ينبئ عما يختزنه الرجل من روح الدعابة وصفاء النفس :«كنت عام نقرا وعام نكتب وعام نفهم الدّرس وكيف كان الأستاذ ينكّت كان الكل يضحك إلا أنا لأنني لم أفهم ما يقوله..». دواعي التكريم جاء بالرائد الرسمي الفرنسي يوم 4 أفريل 2010 اعلان حصول المفكر والباحث التونسي الهادي السعيدي على ارفع وسام فرنسي وسيتولى الرئيس ساركوزي أو من ينوبه لاحقا توسيمه حول تكريمه المرتقب من قبل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يقول محدثي:«ويوم 6 أفريل 2010 تلقيت رسالة من السيد ايريك بيسون وزير الهجرة يعلمني بقرار الرئيس الفرنسي منحي وسام الإستحقاق لقاء انتاجاتي المتنوعة ومساهماتي في مختلف الأنشطة العلمية والتربوية داخل فرنسا وخارجها. وأنا أعد بتوجيه الدعوة لصحيفة «الإعلان» لتكون حاضرة خلال حفل التوسيم ان شاء الله لانها الصحيفة بل وسيلة الاعلام العربية الاولى التي تحاورني. شكرا.. للفقر ولل«حُقرة» أيضا يقول محدثي بل يتداعى في حوار طافح بالشجن:»والدي كان عاملا بسيطا بالجسور والطرقات. كانت ظروفنا قاسية جدا .في تلك الحقبة كنا عائلة تتركب من 9 أخوات لكن رغم ذلك فقد راهن والدي علي خاصة وان جميع اخوتي لم يدرسوا نظرا للظروف الاجتماعية الصعبة لذا لم يكن من السهل علي النجاح كنت ادرس مع ابناء الأثرياء و اتنقل يوميا في الحافلة منذ الساعة السادسة صباحا وفي جيبي بعض الملاليم.. كنت امقت نظرات الاحتقار التي اراها في عيون بعض الزملاء....الاحتقار او بلغتنا الدارجة «الحُقرة» هذه المفردة صدقني لم اجد لها مرادفا في اللغة الفرنسية يشفي الغليل.. المعاناة الاخرى كانت خلال اخر الشهر كان الخوف كل الخوف من راس الشهر حين ياتي القيم ليُخرج من لم يدفع معلوم الشهر الدراسي وكنت دوما في المقدمة احمل ادواتي ولا ادري متى اعود؟ لكن رغم كل هذا كنت دوما مؤمن بالنجاح...ويمكنني القول ان الفقر والفشل الدراسي كانا من الدوافع القوية التي دفعتني للمواصلة والمثابرة والنجاح. حب صامت أجمل شيء ظلت تختزنه ذاكرة محدثي هو انه عاش قصة حب صامتة في مكتبة «يحيى ابن عمر» بسوسة يقول:« كانت فتاة جميلة وانيقة من عائلة ثرية وكانت تبادلني نظرات الاعجاب والحب غير ان الفوارق الاجتماعية التي كانت بيننا حالت دون ان اتقدم في علاقتي بها حيث عجزت عن مصارحتها واكتفينا بالصمت.. كنت أتساءل في قرارة نفسي ماالذي يدفع بفتاة جميلة وثرية مثلها ان تعجب بشاب فقير مثلي»؟ وحول نجاحي فأنا مدين لأمي وأبي خاصة وايضا لزوجتي التي شجعتني كثيرا وثبتت عزيمتي وآمنت بنجاحي اذ كانت تسهر الليل لمراجعة كتبي وأخطائي اللغوية وإبداء رأيها في بعض العبارات والخطابات الفرنسية.سألته فجأة دكتور الهادي كيف تكتب التاريخ فأجاب: «أنا لا أكتب التاريخ عن ثار او عن حقد او بدموع الضحايا انا ابحث عن الحقيقة دون ان اتقمص دور المحقق كما اني لست فأر ارشيف لاظل مقيما في القبو واعيش على التهام الاوراق الصفراء انا اشارك واتنقل واستمع الى جميع الاراء وهذا برايي دور المؤرخ الحقيقي. قيمة التكريم وجسامة المهمّة ورغم قضاءه لما يقارب ال3 عقود في فرنسا فقد كان دائم التوق إلى تراب الوطن شديد الحرص على التقاء الأهل بمدينة النفيضة حتى إذا «سرى فيه دفئ العشيرة» انصرف إلى تكثيف نشاطاته العلمية والأكاديمية قبل أن يشد الرحال مجددا إلى فرنسا. وحول تتويجه المرتقب من قبل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يقول:» هذا التتويج هو مسؤولية مضاعفة تحملني على تبني المزيد من الهواجس الثقافية والحضارية وهو تتويج يتجاوز شخصي ليشمل كل مبدع تونسي آمن بحتمية البذل وقداسة الكفاح الإنساني وهي رسالة إلى فرنسا لا سُمّ فيها ولا دسم بل قول يتلبّس بحق حين نُعلن عن وجود طاقات مبدعة ومواهب فذّة من بين المهاجرين تقارع هامات باسقة في بلاد الأنوار لتصبح الأنموذج والسراج المُنير. ونحن بدورنا كصحيفة تونسية لا يسعنا سوى رفع أصدق التباريك لهذا المبدع التونسي بذرة طيبة وغرس كريم يُضاف إلى «مشاتل» أخرى قد «تطالها» يد ساركوزي بنيشان العزة والفخر