في آخر لقاء للشيخ راشد الغنوشي بجمهور الحركة الاسلامية في تونس يوم الاحد الماضي*سمعنا رئيس النهضة يستشهد بابن رشد رمز العقلانية في الاسلام كما سمعناه يتحدث عن احد رواد التنوير الفرنسي و نعني مونتسكيو. وجوابا على سؤال حول حكم الردة في الاسلام اكتفى رئيس حركة النهضة موجها خطابه لشباب الاسلاميين الحاضر بجواب فيه الكثير من التعجب قائلا "أنتم تفكرون في شيء واحد وهو كيف تعاقبون الناس!" واضاف الغنوشي "فكروا في شيء آخر غير منطق العقوبات.. قدموا للناس بدائل اخرى"! نحن بالتأكيد أمام قول مختلف عن السائد لمفهوم قضية الردة عند الاسلاميين. من الواضح ان الغنوشي وهو يجيب عن هذا السؤال يستحضر فشل كل التجارب الاسلامية في الحسبة ومراقبة ومعاقبة المشكوك في اسلامهم. لا نعتقد ان رئيس حركة النهضة بهذه الرؤية الجديدة على سبيل المثال كان راضيا على مهزلة تطليق المفكر المصري نصر حامد أبو زيد من زوجته او كل المجهود الذي قام به الاخواني عبدالصبور شاهين في تكفير الرجل وجره الى محاكمة عبثية انتهت بنفي وموت نصر حامد أبوزيد في أحد أرياف امستردام! من المنطق ذاته لا نعتقد ان الغنوشي كان مقرا لعقوبة اعدام المفكر السوداني محمود محمد طه في احدى ساحات العاصمة السودانية الخرطوم بتهمة الردة على الاسلام. يأتي تأصيل الغنوشي لحرية المعتقد ليقطع مع الرؤية الاخوانية التقليدية و ليعيد جدلا قديما اثاره الغنوشي ما قبل ثورات الربيع العربي عندما تعرض لانتقادات من قبل زعامات الاخوان المسلمين في مصر مقرا انذاك في كتابه الحريات العامة في الدولة الاسلامية* بالحق في الردة بناء على مبدأ حرية المعتقد التي هي بحسب رأيه ثابت من ثوابت الاسلام. كل المجهود الفقهي القاسي الذي اعتمده رئيس حركة النهضة واعتمده من قبل يتلخص في بحثه عن امكانية القول بان الاسلام لا يتعارض مع فكرة الحرية وان اي تناقض بينهما مرده ليس في مفهوم الحرية و لكن في طريقة فهم المسلمين لدينهم. ركز الغنوشي في محاضرته على فكرة تتلخص في الاتي: انه لا خوف على الاسلام من أجواء الحرية ولا فائدة من استعمال الاسلاميين لسلطان الدولة و لو كانوا في الحكم من أجل فرض أفكارهم. التوجه العام لرأي الغنوشي ينتهي بنا الى قبر مفهوم الحسبة نهائيا من منظومة الفقه الاسلامي التقليدي وتحويل مقولة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من المجال الاكراهي الجمعي وقصرها على التغيير القلبي الفردي. في الطرف القصي لهذا التوجه يلوح لنا مفهوم علمنة الدين حيث لا يحق للدولة او للجماعات التدخل في عقائد المواطنين! هل هذا ما يرمي اليه الغنوشي حقا؟! هل الامر يتعلق باقرار الاسلاميين في تونس بأنهم عجزوا عن فرض برنامجهم على المجتمع التونسي ام ان الامر يتعلق بقناعة انتهى لها الغنوشي مفادها أن الطرح الاسلامي لن يكتب له ان يتواصل في مجتمعنا وفي العالم العربي ما لم يقتنع مريدوه وأنصاره بفكرة الحرية كفكرة جوهرية لهم ولمخالفيهم ؟! نحن نعتقد ان هذين العاملين ساهما في بلورة فكرة حرية الضمير التي تحدث عنها رئيس حركة النهضة. أمام اكراهات التجربة العملية للاسلاميين في الحكم نعتقد ان رئيس حركة النهضة أصبح يعي أن مشروع الأخونة تعثر في مصر واصطدم في بلادنا بقوة الواقع التونسي وان تونسة النهضة أصبحت خيارا لا بديل عنه عبر تبني الحركة لاهم مقولة أنتجت الثورة التونسية وهي فكرة الحريات للجميع ومهما كانت عقائدهم. ولكن من المهم القول ان الاجتهاد النصي للغنوشي ينتهي بنا الى اقرار رئيس حركة النهضة بالشطر الاول من المادة 18 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان والتي تقول "بان لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته". أما الشطر الثاني من الفصل وما يعقبه من الفصل 19 والذي يعطي الحق في "نشر العقائد المخالفة وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية" فهو بلا شك محل نظر وننتظر فيه اجابات صريحة وواضحة. هل يقبل رئيس حركة النهضة مثلا أن ينشر اللادينيون اراءهم في المجتمع التونسي او هل يقبل بالحق بالتنظم وممارسة الشيعة او البهائيين أوالقديانيين اوالتبشيريين او غيرهم من الملل والنحل عقائدهم وافكارهم في تونس؟! ولان مقولة الحرية كل لا يتجزأ ولانها مفهوم يسير في جميع الاتجاهات فانه مطلوب من رئيس حركة النهضة أن يحسم في مسألة الحرية المطلقة للجميع ودون موانع الا للافكار التي تدعو للعنف وتشرع له. نعتقد ان رئيس حركة النهضة باجتهاداته في قضية حرية الضمير اصبح على تخوم ملغومة قد تسبب له احراجات حقيقية أمام قيادات الاخوان التقليدية وفي مواجهة جمهور اسلامي شعبوي مازال متمسكا برؤية مشرقية اسلامية تقليدية. ولانه لا يوجد مثال أقوى من ديمومة الافكار من الواقع ذاته نعتقد ان الغنوشي يعي ان كل التجارب الاسلامية التي نصبت فيها المشانق وطبقت فيها الحدود وفرضت فيها الايديولوجيات انتهت الى فشل ذريع. مسار التاريخ يسير نحو انتصار مقولة المجتمع المفتوح نهائيا وبدون رجعة الى الوراء. كل العقائد المغلقة تنتمي الى عصر المراهقة الانسانية . سمعنا في نزل الأفريكا بالعاصمة نهاية الاسبوع الماضي خطابا صريحا من رئيس حركة النهضة يتحدث عن عدم جدوى الانغلاق وراء الجدران العقائدية الحديدة وتسييج العقول. هناك طريق واحد لبقاء الاسلام حيا في النفوس وهو ان يكون الناس أحرارا في اعتناقه او في تركه واعتناق غيره من الاديان والافكار. خلاف كل ذلك من فرض للاسلام ولسلوكاته لن ينتج الا مجتمعا مغلقا و مقهورا و منافقا. * محاضرة مقصد الحرية في الفقه الاسلامي المعاصر في ندوة تفعيل مقاصد الشريعة في المجال السياسي 25 و26 ماي 2013 بنزل الافريكا بالعاصمة * الحريات العامة في الدولة الاسلامية ص 50 طبعة مركز دراسات الوحدة العربية بيروت