بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العفيف الأخضر:( إصلاح الاسلام 3 من 8 ) كيف يمكن فهم الاسلام من خلال العلوم الحديثة !
نشر في حقائق أون لاين يوم 04 - 06 - 2013

تواصل حقائق اون لاين اليوم نشر الجزء الثالث من الحوار المطول للمفكر التونسي المقيم بباريس العفيف الاخضر. بعد فصل ثان عنونه العفيف إعادة تعريف الإسلام بعلوم الأديان , في الفصل الثالث يقدم العفيف الاخضر محاولة لفهم الاسلام بالاستعانة بالعلوم الانسانية.
باذن من العفيف الاخضر نفسه ننشر هذه المقالات الثمانية حول اصلاح الاسلام تليها دراسة تاسعة حول اصلاح اللغة العربية. و نحن نعتقد ان كل هذا الجهد من العفيف لخضر لم يلق حظه بعد لدى الجمهور التونسي العريض. الحوار الذي هو عبارة عن ثمانية فصول انجزه كل من ناصر بن رجب و لحسن وريغ.
سبق لي ان التقيت بالعفيف الاخضر في العاصمة الفرنسية وتهاتفنا طويلا للحديث عن افكاره و طروحاته في ما أطلق عليه اصلاح الاسلام. للاسف الشديد فان الكثير من أفكار العفيف الاخضر و بصرف النظر عن توافقنا أو اختلافنا معها غير معروفة للجمهور التونسي . من هنا جاء اقتراحي للعفيف الاخضر لاعادة نشر مقالاته عندنا.
أعلم ان الكثير من افكار العفيف الاخضر صادمة للجمهور الاسلامي التقليدي و العديد منها مستفزة فكرا و لكنها في كل الحالات افكار للنقاش العام و دفع للجمهور التونسي للتعرف عليها و مناقشتها و تقديم نقد او دعم لها.
كنت دائما مقتنعا ان من له ثقة في قناعاته و افكاره و معتقداته يجب ألا يخاف من الافكار و طرحها.
في فترة ما بعد الثورة التي نعيشها اليوم من الواضح ان هم اصلاح الفكر الاسلامي او اصلاح الاسلام ذاته كما يقول العفيف الاخضر بات أحد الرهانات الملحة في واقعنا العربي. بوصول الاسلاميين الى السلطة وانتشارهم في الشارع التونسي من المهم تقديم افكار نقدية للطرح الاسلامي من اجل دعوة جمهور الحركة الاسلامية والجمهور التونسي العام الى التفكير. لهذه الغاية نحن سعداء بتقديم هذه المقالات المتتابعة للعفيف الاخضر.
هذه دعوة ايضا الى جمهور الاسلاميين ومثقفيهم الى الرد ومحاججة الفكرة بالفكرة.
ولمن لا يعرف العفيف الاخضر نكتفي بالقول انه أحد ابرز المثقفين التونسيين في قضايا الاسلام وهو مقيم في باريس منذ عشريات عدة ولم يعد الى تونس. العفيف الاخضر ونحن ننشر مقالاته في حقائق اون لاين ربما يعيش اخر سنة له بيننا في هذه الدنيا ومن المؤكد انه بمثل هذا الجهد سوف يترك افكارا جديدة للمناقشة للمهتمين بالفكر الاسلامي وتطوير العالمين العربي والاسلامي.
في ما يلي الجزء الثالث من الحوار المطول للعفيف الاخضر.
الفصل الثالث
الجنّة رمز لرحم الأم
يقدّم تدريس علم نفس الأديان للتّلميذ والطالب إضاءة أخرى ثمينة، تساعده على فهم الجذور النفسية للظاهرة الدينية. مثلا ماذا يقول علم نفس الأديان عن الظاهرة الدينية؟ أنها اسقاط نفسي: فقد اكتشف الإنسان الإعتقاد في كائنات ما فوق طبيعية، آلهة ثم إله، منذ ليل التاريخ، عبر إسقاط صورة أبيه، رمز الحماية والحب، على أب آخر في السماء يقف إلى جانبه في أيام البأس واليأس، ويقدم له العزاء والسلوى في الشدائد والمحن. وليس مصادفة أن القبائل البدائية تسمّي الله "الأب الذي في السماء" وكذلك يسمّيه المسيحيون. كما يعطيه الطريقة لتأويل الرموز الدينية والأسطورية، كخلق حواء من ضلع آدم، حسب أسطورة سفر التكوين، التي تأوّلها فرويد بما هي تخييل إستمنائي، وكالجنّة، التي أوّلها فرويد بالحنين اللاشعوري لإقامة الجنين في رحم أمّه:وصف النفساني، جروند بيرجر،مشاعر الجنين المطرود من الرحم بالولادة،يذكرنا بأسطورة طرد آدم من الجنة قائلاً:"يحتفظ الجنين للعالم الآخر، الذي طرد منه، بالحنين؛ احتجاجه على طرده منه يعبر عن الحنين إلى الكمال والنعيم والبراءة".أما النار فيمكن تأويلها،في نظري،بأنها ذكرى مؤلمة لصدمة الولادة، وصدمة قطع حبل الصرة،وصدمة الفطام وأخيراً،بالنسبة للمسلمين واليهود، صدمة الختان. وكلها مفاجآت غير سارة سببت للطفل،منذ الولادة،اضطرابات بيولوجية ونفسية دائمة.كما يكشف لنا علم نفس الأعماق التشابه العميق بين اضطرابات الوسواس القهري،والشعائر الدينية كالصلاة والطهارة:مثلاً الإغتسال الكامل للتطهر من النجاسة بعد النكاح، أو الإحتلام ؛والوضوء،بعد التغوط والتبول أو الفُساء والضراط، أو حتى مجرد لمس القضيب سهوا،تشبه،بل ربما تماثل أعراض اضطرابات العصاب الوسواسي القهري،الذي يتجلى في وسواس النظافة،مثل غسل المريض يديه أكثر من 100 مرة في اليوم لتنظيفها من الأوساخ أو الميكروبات …إلخ! من الزاوية السيكولوجية ، العصاب الوسواسي القهري هو دفاع ضد الجنون؛ من الزاوية البيولوجية،هو عرض لإختلال بعض وظائف الدماغ،مما يجعل علاجه بالأدوية ممكناً،مخلّصاً هكذا المؤمن من التكرار اليومي أو الدوري لشعائر سقيمة ومؤذية، كترك الطالب دروسه،والعامل عمله للصلاة،أو انهيار الإنتاج والصحة في شهر رمضان،أو متاعب وتكاليف ومخاطر العدوى بالأمراض بالحج…
شيوخ الإسلام المستنير،لا يرون غضاضة في تبني التفسير النفسي لظواهر الدين؛مثلاً الشيخ خالد محمد خالد ،تبني في كتابه "من هنا نبدأ" (1950)، تفسير علم نفس الأعماق للشيطان: بأنه رمز اللاشعور حيث ترقد الغرائز العدوانية، والرغبات الجنسية المكبوتة، وفي مقدمتها الرغبة في الاغتصاب الراسخة في نفسية الذكور.
اللّسانيات:كما يعلمنا علم نفس الأعماق، بأن الواقعة الخام غير موجودة، لأن الواقعة تترافق عادة بإسقاطاتنا اللاشعورية عليها؛بالمثل تعلمنا اللسانيات أن كل نصّ هو تقريبا تناص، أي تلاقح نصوص عدة على مر التاريخ،وهو مجاز، لا يجوز أن يُقرأ قراءة حرفية، وأنّه،كما قال ابن عربي في فتوحاته:"ما في الكون كلام لا يُتَأَوَّل".النص،والكلام عامة،الوحيد الدلالة لا يكاد يوجد.خاصة في الدين حيث يتفشى الفصام بين فاعليه، سواء أكانوا أنبياء أو رجال ونساء دين.وهذا ما جعل النصوص الدينية غالباً فضفاضة أي مزدوجة الدلالة:تحتمل الشيء ونقيضة،بل هي أحيانا هذيان مغلق عن الفهم، مثل الآيات المتشابهات، وحتى النصوص الدنيوية المبهمة كبعض كتابات، ألان بو،أو بعض أشعار وكتابات المعري.من الواضح أن اللغة،منذ البداية،كانت فصامية، تكثر فيها أسماء الأضداد لأن الإنسان البدائي، وامتداده الإنسان التقليدي،اللذين تكلماها، كانا مسكونين بالفكر السحري والفصامي تعريفاً، والإلتباس اللغوي، حيث الكلمة لها معنى أول ومعنى ثان.لهذا السبب نجد أن المصطلحات العلمية والتكنولوجية، خالية من رواسب لغة ما قبل العلم، التي تنقصها الدقة.تخلّف دراسة العلوم في الفضاء العربي، عائد، في المقام الأول، إلى غياب المصطلحات العلمية في العربية.فمازال متكلموها يرفضون إعطاء الجنسية اللغوية للمصطلحات العلمية والتكنولوجية الحديثة،لمجرد أنها "دخيلة"،إذ أن الذهنية العتيقة لا ترضى عن الأصيل بديلاً!.
القراءة الحرفية السائدة تعاملت مع لغة النصين المؤسسين،القرآن والحديث،كما لو كانت مصطلحات علمية وتكنولوجية لا تحتمل إلا معنى واحداً وحيداً، والحال أنها متعددة المعاني والإيحاءات المتناقضة كثيراً وغالباً.لذلك هي في حاجة ماسة إلى التأويل بمفهومه اللساني والهرمينوطيقي، الذي هو قبر القراءة الحرفية للنص، والتي هي أحد أمراض الإسلام المزمنة.
الفيلولوجيا موضوعها هو الفهم الموضوعي للحضارات القديمة، من خلال التحقيق والتحليل النقديين لنصوصها الأسطورية والأدبية والدينية، للتحقق من صحة النص. بها استطاع المستشرقون تحليل وتحقيق وترجمة نصوص الإسلام، كنولدكه وبلاشير مثلا.
التحليل الفيلولوجي للكلمات، لا يساعد على تدقيق معانيها في سياقاتها التاريخية وحسب،بل يلقي أيضاً أضواء عن حقائق تاريخية، وانثروبولجية وسسيولوجية ثاوية فيها.مثلاً كلمة بوليموس الإغريقية، تعني الحرب؛وهي مشتقة من بوليس أي المدينة الدولة.استنتج الباحثون من ذلك أن الحرب،في اليونان على الأقل، ارتبطت بظهور المدينة الدولة.
* ما المقصود بالهرمينوطيقا؟
** هي تأويل النصوص،والرموز،والأساطير الدينية والدنيوية. فهي تعلمنا أن النصوص والرموز خاصة، الأسطورية والدينية، فضفاضة ومتشابهة تحتمل معانِي عدّة،متناقضة غالباً، مصداقا لقول الإمام علي "القرآن حمّال أوجه"، إذن يسمح بأكثر من قراءة واحدة. وتساعد تلامذتنا وطلبتنا وباحثينا على استخراج المعاني الأسطورية والرمزية الكامنة في النص، بنقله من الإبهام إلى الوضوح لجعله مفهوما. التأويل، عكس التفسير العلمي، ليس منتجا لمعرفة علمية موضوعية، تفرض نفسها على الجميع. بل هو تأمّل فلسفي أو صوفي. النص الديني برموزه يفتح آفاق تأويل لا حدود لها للقارئ، الذي يحيّنه حسب عالمه المعيش، ليعيد امتلاكه باعطائه المعنى الذي يلائمه. وهذا ما نراه، في التفاسير التي هي تآويل للنصّ القرآني.فيها يلتقي عالَم الآية والعالم المعيش لكل مُفسر وقارئ. مصداقا لقول ابن عربي "ما في الكون كلام لا يُتأول ". فعلا لأن التأويل هو مفتاح قراءة ما يقال أو يكتب تحت املاء اللاشعور؛ حتى النوطات الموسيقية تحتاج إلى تأويل. مثلا باخ، كما يقول مؤرخو الموسيقى، كتب في مخطوطاته الروابط بين النوطات، بسرعة كبيرة، حتى غدا من المستحيل أحيانا معرفة مكانها الحقيقي، فيضطر عازفوه – يسمون باللغات الأوروبية مؤولوه إلى الاجتهاد في تنزيل الروابط. حالة باخ هي حالة الفنانين، والأدباء، والشعراء، والمتصوفة والأنبياء، الذين تتزاحم في رؤوسهم الأفكار والصور والإلهامات والرموز والمجازات والهلاوس والوساوس،على نحو يجعلهم يتحكمون بالكاد في تنظيمها. من هنا ضرورة الهرمينوطيقا، أي التأويل، لدخول عالمهم الغني بشتى المدلولات والهذيانات المبهمة، والمتشابهة أي المتعارضة. يقول بعض الباحثين أن 94 في المائة من آيات القرآن متشابهات إذن في حاجة إلى علوم التأويل الحديثة لتفكيكها لجعلها قابلة للفهم،أو لفهم ميكانيزمات الفصام التي جعلتها غير قابلة للفهم.
القراءة الهرمينوطيقية تمر بثلاث درجات : تبدأ بالمعنى الحرفي، لتبرهن على أنه غير مقنع غالبا، منتقلة إلى روح النص، أي إلى معانيه المفهومة وأخيرا إلى الدرجة الثالثة القراءة المجازية للنص، حيث يتجاور عالم مؤلف النص مع عالم قارئ النص، في حوار قوامه الايحاء والاحتمال والترجيح. القراءة الهرمينوطيقية مارسها في الإسلام المتصوّفة. تفسير ابن عربي هو أحد نماذجها الأكثر نضجا؛ تأويله هو في الواقع إعادة انتاج للنص القرآني،كما برهن على ذلك في تفسيره الصغير،الذي لا يُدرس على حدّ علمي في أي كليّة دينية إسلامية!.
أضيف إلى علوم الأديان، علوم الأعصاب، التي تَدرُس تركيب الدماغ ووظائف وآليات اشتغاله. اكتشافاتها في هذا المجال غيّرت راديكاليا المفاهيم الدينية القديمة. مثلا ظلّت البشرية، منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، تعتقد أنها تفكر وتؤمن بالقلب، إلى أن كشفت البيولوجيا العصبية أن الإنسان لا يفكر بقلبه بل بدماغه، وتحديدا بقشرة الدماغ، أي الخلايا العصبية:النورونات المُنتجة للتصورات الذهنية من مشاعر، وأحاسيس، وانفعالات وأفكار… كل خلية، من المائة مليار خلية عصبية في دماغنا،تقوم بوظيفة محددة. مثلا خلايا القشرة الجبهية، وهي متطورة جدا عند الإنسان، قياسا على ابن عمّنا الشامبنزي، متخصصة في الفكر العقلاني؛خلايا الفصّ الصدغي الأيمن متخصصة في إنتاج الظواهر الدينية، كالأيمان والتأمل الروحي، والوحي والنبوة والوجد الصوفي:إذا كان الطب النفسي، يفسر ظواهر الوحي عند الأنبياء بالهذيان الديني،الذي نواته،هذيان نهاية العالم زائد الهلاوس السمعية أو السمعية البصرية،كرؤية جبريل مثلاً،فإن علوم الأعصاب تفسر الوجد الصوفي،أي الحضرة، بما هو حالة دماغية تمنع مراكز المخ،التي تُجري في الأوقات العادية فصلاً بين الأنا والعالم، عن القيام بوظيفتها؛الوجد قادر على تخفيف نشاط مراكز المخ، التي تعيدنا إلى فرديتنا،إلى أنانيتنا. بالمثل؛يفسر ظاهرة الدراويش، الذين يمشون حفاة على الجمر، بأن الهستيريا تمنع العصب الناقل للألم من الإشتغال،تماماً كالبنج.وهكذا فعلوم الأعصاب واعدة بمقاربة بيولوجية ناجعة "للأسرار الروحية"،تساعد العقل على فهم كيفية اشتغال المشاعر والانفعالات والهلوسات، وتالياً التحكم فيها.
اكتشافات علوم الأعصاب تاريخية وجديرة بأن يتعلمها تلامذة وطلبة التعليم الديني، لتنويرهم وإنقاذهم من التجهيل المنظم، الذي تحشو به التربية الدينية التقليدية، في مدرسة اللامعقول الديني، أدمغتهم، لإبقائهم رهينة لأساطير ما قبل تاريخ العلم. تعليم ديني يَستنير بالعلم هو الكفيل بتخليصنا من مدرسة اللامعقول الهاذي وشياطينها:من التعصب إلى الإرهاب المعولم، مثل فتاوى إهدار الدماء المحرضة على تفجير الأحزمة الناسفة في المُصلّين الشيعة في العراق، وفي المراهقين الإسرائيليين المُسطفّين لدخول المرقص!
تدريس علوم الأديان، ودراسة الإسلام بها، سيُعلم الأجيال الجديدة – عكس الأجيال التي كانت ضحية القراءة الحرفية – مُقاربة النصوص باعتدال ومعقولية. فلا تعود تردّد كالببغاء مع ابن حزم : "إن نصوص القرآن والحديث تُطاعُ لذاتها لا لِعِللها"،بل سيضعون مكان كلمة "تُطاع" كلمة "تُفهم لِعللها لا لذاتها". وهكذا يصبح المطلوب فهم النص، وليس الإستسلام للنّص صُمًّا وعِميانًا، الذي هدم كل أساس معقول للحياة الإجتماعية والدينية، إلى درجة السقوط في الهلاوس، والتخييلات، والهذيانات الفردية والجماعية التي نعيشها اليوم. علوم الأديان مُجتمعة تقدم لنا معرفة موضوعية عن الدين، تساعدنا على فهمه وتفسيره للتعامل معه بعقلانية، أي بفكر يتساءل ويفحص بعيدا عن الرقابة الدينية المفروضة أالذاتية.وباختصار،فكل علم من علوم الأديان يلقي أضواء كاشفة على الظاهرة الدينية؛في الواقع،علوم الأديان مثل أشعة الليزر، بما هي شعاع ضوء قوي، تجعل الذرات شفافة؛بالمثل،علوم الأديان تجعل الدين بما هو انتاج ثقافي شفافا.
عندما يجعل العلم علاقة الإنسان بالدين شفافة،وعلاقة الإنسان بالعالم شفافة،وعلاقة الإنسان بالإنسان شفافة.عندئذ وربما عندئذ فقط قد يصبح الإنسان إنساناً وإنسانياً حقاً.
علوم الأديان هي الوحيدة الكفيلة اليوم بجعل الإسلام متحضراً،أي متصالحاً مع حاجات ومتطلبات عصره مثل حوار الأديان.ولا شيء كحوار الأديان، لتجاوز الولاء والبراء المنغلق على نفسه والذي يعتبر حوار الديانات الأخرى كفرا. ولا معنى لهذا الحوار إذا لم يشارك فيه أكثر من نصف البشرية:56%من معاصرينا الوثنيين. وهذا ما بدأ يعيه فرقاء هذا الحوار. فقد أَشركوا، في مؤتمر حوار الديانات التوحيدية، ممثلي الديانة البوذية، التي هي اليوم من أكثر الديانات أتباعا وتسامحا. إذ تسمح للمؤمنين بها باعتناق أي دين آخر شاؤوا مع بقائهم بوذيين.
هذه الروح البوذية المتسامحة والمسكونية (أي العالمية) كانت قوام الإسلام الأول، ونصت عليها كثير من الآيات الكريمة، مثل"والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما ُأُنزل من قبلك". وبهذا المعنى فالمسلم هو في الوقت ذاته يهودي ومسيحي وصابئ، لأن هذه الديانات جميعا طريق للخلاص الروحي للمؤمنين بها،مصداقا للآية 69 من سورة المائدة: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". فهذا الوعد القرآني يعتبر الأديان المعروفة آنذاك طريقا للخلاص الروحي. لكن هذه الآية، كالآيات الأخرى التي تتعارض مع التوسع الإمبراطوري، على حساب الديانات الأخرى، نسخها فقهاء النرجسية الدينية، فقد نسخوا 75 آية، اعترفت بالحرية الدينية وحرية الضمير والتسامح الديني وحوار الأديان، بآية واحدة وحيدة قرؤوها كعادتهم قراءة حرفية هي "إنما الدين عند الله الإسلام". وهذه جرأة فقهية ترقى إلى مرتبة الفضيحة: آية سجالية تنسخ عشرات الآيات التي أسست للتسامح الديني الضروري،خاصة لعصرنا:عصر حروب الأديان المعلنة أو الكامنة ! وعلى مدرسة المعقول الديني اليوم أن تنسخ النسخ، وترد الاعتبار لآيات الحرية الدينية المتطابقة مع العقلانية الدينية و حقوق الإنسان. وهو انجاز حققه الإسلام الصوفي بنسخه النسخ. سجل ذلك المتصوفة في شعر جميل ،مثل عبد الكريم الجيلي القائل،منذ حوالي 6 قرون:
فطوراً تراني في المساجد راكعاً / وطوراً تراني في الكنائس راتعاً
إن ُكنت في حكم الشريعة عاصياً /سأكون في حكم الحقيقة طائعاً
الجيلي،لا يبالي بحكم الشريعة النرجسية الملتفة على نفسها كعمامة.الحكم الوحيد الذي يرتضيه، هو حكم الحقيقة الصوفية،الحقيقة الروحية التي نلتقي بها في كل الديانات، بما فيها الوثنية،وفي كل أنساق التفكير بما فيها الإلحادية.كما يقول ابن عربي أيضاً:
لقد كنت قبل اليوم أُنكر صاحبي / إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل ملة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان
ومعبد أوثان وكعبة طائف / وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أَنّى توجّهت ركائبه / فالحب ديني وايماني…
ابن عربي نادر في تاريخ الإسلام. إنه حقا معاصر لنا، إذ اعترف بالديانات الوثنية وساواها بالتوحيدية منذ ثمانية قرون. ومازال فقهاء الظاهر،لا يعترفون حتى باليهودية والمسيحية، زاعمين أنهما مجرد شريعتين نُسختا بالشريعة الإسلامية… لا بأس بتدريس هذه الأبيات، في جميع المدارس وجميع البلدان، في مادة حوار الأديان المطلوب استحداثها. ولتبدأ بذلك المملكة العربية السعودية، التي بدأت تنفتح على حوار الأديان العالمي. ولا بأس بكتابتها، بجميع اللغات، على واجهة أبواب مؤتمرات حوار الأديان، ردا على فقهاء التعصب الذين مازالوا يكررون "لا معنى لحوار الأديان مع البابا إلا بدعوته إلى دخول الإسلام". قارن هذا التعصب بواقعة وفد نصارى نجران، برئاسة أسقفهم، إلى المدينة للحوار مع نبي الإسلام. كان اليوم يوم أحد، ولما حان وقت إقامة القداس، سأله الأسقف: أين سنصلي يا محمد ؟ أجابه:في مسجدي.فلماذا لا يتبادل اليوم المؤمنون بجميع الأديان، الصلاة يوما كل سنة على الأقل، في معابد بعضهم بعضا، احياءً لهذه السنة النبوية الحميدة؟. ولعل شيخ الأزهر، المنحدر من الإسلام الصوفي، وريث الإسلام المكي الروحي المسالم، سيكون أول المبادرين لذلك بدعوة المسلمين للصلاة في الكنائس في عيد الميلاد، ودعوة البابا للمسيحيين للصلاة في المساجد في عيد المولد النبوي.
دراسة الإسلام بعلوم الأديان، هدفها تعليم أدمغة الناشئة التمرن على الصرامة المنهجية، والانضباط المعرفي، والفكر النقدي، وهي العدة الضرورية لفهم النص وتفكيكه والنقاش فيه بلا محرمات مستبطنة،مازالت حتى الآن تشكل عوائق تعتقل عقل المسلم فلا يعود قادرا على فهم موضوعه.
* أضفتَ أيضا الفلسفة لعلوم الأديان. فكيف تساهم الفلسفة في فهم الدين ؟
** الفلسفة ضرورية لفهم الدين والحياة. لإنتاج الحكمة فيهما. العالم الذي نعيش فيه لا يحتاج إلى القوة بل إلى الحكمة. الفلسفة تدرب أدمغة التلامذة والطلبة على استخدام الفكر النقدي، الذي يستدعي جميع الادعاءات الدينية والدنيوية للمثول أمام محكمة العقل، لتحاول تبرير معقوليتها. كما تدرب الأدمغة على استخدام قوة الحجة، بدلا من حجة القوة، التي توشك أن تجعل العالم غير قابل للحكم وربما أيضا غير قابل للحياة. تعلمهم لذة الاكتشاف، والفضول المعرفي، أي ثقافة السؤال التي حرمها الفقهاء.كما تحصنهم ضد ثقافة الاستشهاد، وهذيانها عن الشهيد الذي لا يموت، وعن القصر و 72 حورية، اللواتي ينتظرن أمامه قدوم القاتل القتيل، لافتضاضهن بعدما نفذ جريمته في الأبرياء.وهكذا فالفلسفة تعلّم أبناءنا أن يهتموا بمستقبلهم الآن وهنا، تشفيهم من مرض الحنين إلى الماضي، الذي هو حنين إلى فترة الطفولة، فترة الإعفاء من المسؤولية؛ ومن البحث عن مفاتيح حاضرنا ومستقبلنا في ماضينا الذي فات ومات. الإصلاح الديني الشجاع يساعد على طي صفحة ثقافة الاستشهاد بتعويضها بثقافة احترام الحياة، حياتنا وحياة غيرنا. الفلسفة،المفككة للأساطير،تساعد على ذلك،إذا عممنا تدريسها من الإبتدائي إلى العالي.
أصدرت دار"ميلاني جونيس"الفرنسية،منذ سنة 2000 إلى الآن،سلسلة كتيبات فلسفية للأطفال تحت عنوان"وجبة غذاء الطفل الفلسفية الخفيفة".ترجمة هذه السلسلة،ونشرها على الإنترنت وتدريسها في يوم قد لا أراه بعيداً سيكون أجمل وأنفع هدية ثقافية للأطفال في أرض الإسلام، التي حرم فيها فقهاء الإنحطاط،منذ 8 قرون ترجمة الفلسفة وتدريسها وقراءتها.وهكذا سادت في إسلام الإنحطاط ، ثقافة تحريم السؤال على أنقاض ثقافة السؤال،وساد الفكر السحري على أنقاض الفكر العقلاني،وسادالمونولوج،أي التفاوض مع الذات،على الديالوج أي الحوار،وسادت حجة القوة على انقاض قوة الحجة ومازالت سائدة…!
تقدم دار النشر هذه السلسلة لأطفال فرنسا قائلة:"وجبة غذاء الطفل الفلسفية الخفيفة"،تساعد الأطفال على التفكير في الأسئلة التي يطرحونها على أنفسهم؛سلسلة كاملة من الكتيبات الواضحة،المباشرة والمضحكة لإيقاظ شهوة الأفكار عند الأطفال".
إليكم نماذج قليلة من عناوين السلسلة:من أين أتينا؟[لتفسير نظرية التطور للطفل قي سن 8]؛ السعادة؛الإحترام والإحتقار؛الموت والحياة؛الحب والصداقة؛الحقيقة والكذب؛الشجاعة والخوف.ولنفس الدار سلسلة أخرى لتدريس الفلسفة للأطفال منذ سن ال 15 عاماً.
فطوبى لمن يتحلى بالشجاعة الفكرية فيترجمها وينشرها على الإنترنت لتنجو من مقص الرقيب الديني،وطوبى ثم طوبى لصانع القرار،الذي يتغلب على مخاوفه اللامعقولة فيتحلى بالشجاعة السياسية، كي يقرر تدريسها للأطفال منذ الثامنة… لينهي بقراره الشجاع جريمة مستمرة ضد العقل في أرض الإسلام منذ 8 قرون!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.