رغم الانتقادات التي توجه إليه سواء حول أسلوبه في التواصل مع وسائل الإعلام أو معارضيه أو غيرها من نقاط الجدل المثارة حوله يبقى الباجي قايد السبسي شخصية ملهمة ومثيرة للجدل فما إن يتحرك أو يدلي بتصريح إلا يكون حديث العامة قبل الخاصة.. السبسي كان أحد أركان دولة الاستقلال في عهد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة قبل أن يختفي تدريجيا في حقبة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ليتحول إلى مجرد ملف مثير ضمن تاريخ تونس المعاصر.. ومع كل ما اعترى تونس من فوضى بعيد ثورة 2011 لم يجد فؤاد المبزع - الرئيس حينها- من حل سوى التنقيب في دفاتره القديمة لعله يعثر على حل لأزمة بداية العشرية الثانية من الألفية الثانية فلم يجد أمامه من مخرج إلا الاستنجاد بالباجي قايد السبسي كبديل لمحمد الغنوشي الذي تمسك بالاستقالة.. سقوط السبسي من أروقة التاريخ وعودته من جديد إلى الساحة السياسية مثل منقلبا للأوضاع فقد مكّنه ذلك من إضافة محطات هامة إلى سيرته الذاتية التي ستظل خالدة وهو الذي تعاقب على أهم وزارات الدولة قبل أن يصعد في 2014 إلى سدة الحكم كأول رئيس منتخب من انتخابات حرة ومباشرة.. ولعل ما رافق السبسي من جدل منذ 2011 إلى غاية يومنا هذا هو ما يحيل إلى المقارنات المثارة بينه وبين الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة فعلى ما يبدو فإن "ساكن قصر قرطاج" مولع بهكذا تشبيه وهو الذي يرى نفسه اليوم زعيما فعليا لتونس.. "التشبّه بالزعيم" طارد السبسي على امتداد السنوات الست الأخيرة فالرئيس لم يفوت فرصة إلا ظهر في جلباب الزعيم ولعل صورة "أب كل التونسيين" هي أبرز ما يستلهم من "خرجات" السبسي الإعلامية أو حتى حركاته وتصريحاته.. وعرف عن بورقيبة طابع مميّز في الخطابة فالزعيم لم يكن يستند إلى نصوص مكتوبة في حديثه إلى الشعب كما أن أسلوبه أيضا متفرد من خلال استعمال النص الديني أو المنهج العقلي وخاصة الاستنتاجات و"التحييث" المستعمل في المحاماة ومنها العبارة الشهيرة "فبحيث" التي كان يستعملها الزعيم ولا تغيب اليوم عن الرئيس الحالي في أحاديثه الإعلامية أو خطاباته الشعبية.. بورقيبة كان له أيضا مظهر خاص في اللباس فقد كان يميل إلى "البدلة الافرنجية" أكثر من توقه إلى اللباس التقليدي الذي لا يظهر به إلا في المناسبات التي لها علاقة بالتراث أو بالمعتقدات (الأعياد مثلا).. السبسي الذي راكم التجارب في مسيرة طويلة في عالم السياسة لم يحتج وقتا كبيرا ليفهم المخيلة التونسية فرما على ظهره جلباب بورقيبة وهو الذي يعد من بين أكثر من خبروه ليخرج إلى العامة في ثوب الزعيم وزادت عديد نقاط الالتقاء بينهما في تدعيم ما اختاره.. ولعل من حسن الرئيس أن طوله وشكله الخارجي (مع بعض الروتوش) يقود الكثيرين إلى استحضار صورة الزعيم الراحل كما أن تكوينه كمحام تماما كما هو الشأن لبورقيبة جعله لا يجد صعوبة في اعتماد المنزع العقلي في التخاطب أما بعض الحركات التي كان يستعملها الزعيم وأسلوب الدعابة والاستعانة بالنص القرآني فلم يكن عسيرا عليه تقليده فيها.. رئيس الجمهورية الحالي وفي سياق الهوس بالزعيم بات الأكثر إثارة للجدل فمن أن يفرغ الناس من حديثهم حوله حتى يعيدهم إلى نفس المربع وهو ما تجلى مؤخرا في موضوع المساواة في الإرث.. جدل لم يكد يفرغ منه حتى فتح الباب لآخر بعد أن التقى صباح أمس رئيس الترجي الرياضي حمدي المدب بدعوى إثنائه عن الاستقالة ومواصلة دعم فريقه صونا لراية الأحمر والأصفر ومن خلفها الرياضة التونسية.. وفي الحقيقة فإن موضوع المساواة في الإرث لم يكن إلا صفحة جديدة في الدفاع عن حقوق المرأة وهي إحدى نقاط الضوء الأكثر إشعاعا في مسيرة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وبالتالي فلم يكن السبسي مستعدا للتفويت في فرصة مشابهة لتدوين اسمه إلى جانب بورقيبة وهو الذي يقترب من نهاية مدته النيابية (2019).. موضوع الإرث آثار -ولا يزال- جدلا في تونس امتد صداه إلى خارجها وخاصة في بعض الدول التي لا تزال فيها قيادة المرأة للسيارة جرما وربما إثما من صنع الشيطان لكن يبدو أن استقبال حمدي المدب قد خلف جدلا آخر ألهى المتابعين عن الجدل السابق.. ولا يعد استضافة رئيس الترجي الرياضي حدثا عاديا فقد سبق لعدة رؤساء سابقين أن لوحوا أو قدموا استقالتهم في فترة الرئيس الحالي وأشهرهم سليم الرياحي لكن الرئيس لم يتدخل ليثنيه أو غيره.. استضافة الباجي قايد السبسي لحمدي المدب لا تخلو من الرمزية أيضا فقد سبق أن كان الزعيم الحبيب بورقيبة في نجدة نادي باب سويقة سنة 1971 بعد قرار وزير الشباب والرياضة آنذاك الطاهر بلخوجة بحل هيئته المديرة وإيقاف نشاط فرع كرة القدم بعد أحداث مباراة السي أس أس بملعب المنزه.. بورقيبة أعطى قرارا أسقط العقوبات التي اتخذها وزيره للشباب والرياضة قبل أن يستقبل بقصر صقانس بالمنستير هيئته المديرة الجديدة بقيادة المرحوم حسان بلخوجة فكان أول تدخل من نوعه من رئيس للجمهورية.. السبسي وبمنطق "من شابه الزعيم فما ظلم" وجّه مساء أمس الأول الدعوة لحمدي المدب ليجلس إليه صباح أمس ويدعوه للعدول عن الاستقالة حفاظا على استقرار الترجي الرياضي وهكذا يكون قد شابه الرئيس الأول للجمهورية حتى في التفصيل المتعلق بالانتصار لنادي باب سويقة.. السبسي اختار أن يكون تقليد "الزعيم" منهجا له في مشوار ما بعد العودة من الاعتزال ولكن يبقى الحبيب بورقيبة رمزا عصيّا عن المقارنة حتى وإن حاول الكثيرون النيل منه أو حتى استحضاره روحه فهو سيظل الأصل..