15 سبتمبر... لطالما كنت أمقت هذا اليوم بشدة ، ليس لأنه يوم العودة المدرسية، واستئناف الدروس، بل لكونه كان مرتبطا في ذاكرتي باليوم الرسمي للتمييز الطبقي والفرز الاجتماعي. ولطالما كان هاجسي المرعب طيلة سنوات الدراسة، تلك الورقة او نصف الورقة التي يطالبنا بها المربون في أول أيام العودة المدرسية لمعرفة بعض التفاصيل عن حياتنا الشخصية ومكانتنا الإجتماعية.
الحكاية تبدأ بعرض الموضة ولم نكن من سكان ميلانو وتنتهي بنصف الورقة التي مثلت كابوسا للآلاف من التلاميذ.
وظل على مدى عقدين من الزمن، سؤال معلم درسني في المرحلة الابتدائية يدفعني إلى البكاء كلما استحضرته، خاصة كلما اقتربت العودة المدرسية، ولهذا أود أن أسرد عليكم ما عشته في تلك الفترة من طفولتي علكم تستخلصون منها عبرة تفيدكم في سنوات حياتكم القادمة.
انا ميرفت بن علي صحفية، اصيلة ولاية بنزرت وولدت في معتمدية طبربة التابعة لولاية منوبة، في تلك الرقعة من الأرض ترعرعت وكبرت ولازلت أعيش هناك، وفي سن السادسة لحقت بمقاعد الدراسة بالمدرسة الإبتدائية ابن خلدون بطبربة، أين عشت فيها كغيري من التلاميذ أسوء أيام حياتي التي ظلت تلاحقني الى اليوم.
فمنذ أول يوم إلتحقت فيه بمقاعد الدراسة ، طُلب مني كغيري من أترابي، الإجابة عن جملة من الأسئلة التي خلفت لي جرحا غائرا إلى اليوم لم يندمل رغم أني نجحت وتفوقت في دراستي وأعمل كصحفية يعتبرها البعض ناجحة.
تلك الورقة أو نصف الورقة، التي كنا مطالبين بكتابة مهنة الوالدين ومحل الإقامة عليها، سببت لي طيلة سنوات طويلة ألما لم أقدر حتى اليوم على تجاوزه، وأذكر أني بكيت مرات عديدة بعد أن سألني معلمي ماهي مهنة ابيك.
ومنذ أن أجبنا على أسئلة تلك الورقة، بدأت التفرقة وبدأ التمييز العنصري وبدأ الظلم والقهر وبدأت رحلة المعاناة.
في الحقيقة كنت من بين التلاميذ الذين يقطنون في الأحياء المجاورة لمدينة طبربة، والتي ينحدر معظم متساكنيها من عائلات ضعيفة ومتوسطة الدخل وأخرى تعيش الفقر المدقع بكل تجلياته، كان وضعا اجتماعياً لم نختره ولم نكن السبب فيه وأجبرنا على مكابدته ومعايشته والكفاح منذ الطفولة لتخطيه والانعتاق منه.
غير أن تلك الورقة حالت دون ذلك، وكانت بمثابة القدر الغاشم الذي يسلطه علينا أغلب المعلمين لتصنيفنا طبقيا واجتماعياً داخل القسم، فأبناء المدرسين والأطباء والمزارعين وما يسمى ''بالبلدية'' وغيرهم من ميسوري الحال يُرسّمون على حساب الطبقة الراقية أو "الأسياد"، فيتم تبجيلهم وإجلاسهم في المقاعد الأولى بالقسم، والتعامل معهم بكل لطف وتسامح، أما نحن أبناء "عمال الساعد وربات البيت" و البؤساء والمهمّشين، فمستقرّنا المقاعد الأخيرة من الفصل أين يتم تجالهنا تماما، لم يكن من حقنا الإجابة عن الأسئلة مهما رفعنا أصابعنا الصغيرة المرتعشة كان ذلك الشرف حكرا على أبناء الذّوات فهم أصحاب النّجابة والذكاء ، أما نحن فكنا ننعت بأبشع العبارات وملزمين بالصمت طيلة حصة الدرس فيما يقبع الآخرون في سلام آمنين.
وأذكر أيضا أني في السنة الثالثة تشاجرت مع زميلة لي في الدراسة كانت إبنة أستاذ في الرياضيات، لقد عمدت إلى ضربي وحين حاولت الدفاع عن نفسي بضربها، اشتكتني إلى المعلم، الذي دون أن يتحرى الأمر بادر أولا إلى صفعي ومن ثم أخضعني إلى عقاب شديد "بالفلقة"، الأمر الذي خلف لي جراحا غائرة وخطيرة على مستوى يديّ وساقيّ، باعتبار وأني كنت أعاني من مرض الصدفية، وألزمني المنزل لفترة بعد أن عجزت عن المشي جراء الضرب المبرح الذي تعرضت إليه.
كم كان ذلك قاسيا عليّ ! بيد أنّ الأشدّ قسوة وإيلاما من ذلك هو ذلك العجز القاهر الذي شاهدته في عيني والديّ وهما اللذان لم يفقها سببا ولا منطقا لما حصل لابنتهما المسكينة، وظل ذلك الإحساس بالقهر ينهشني، لسنين عديدة، وبقيت ذكراه محفورة بداخلي إلى اليوم.
تلك الحادثة وغيرها من الحوادث التي نزف بها وناء بمرارتها شبابي الغضّ، خلفت لي كرها شديدا لذلك المعلم بل لكافة معلمي تلك المدرسة ولتلك المدرسة بصفة خاصة، لذلك تراني أتحاشى إلى اليوم المرور من أمامها وأنسف كلّ ذكرى مهما كانت عنها.
لكن... أين المفرّ من ذلك السؤال الذي نغص عليّ طفولتي الدراسية وهاهو ينغّص شبابي! "ما هي مهنة الأب والأم؟ وأين قضيت فترة العطلة ؟ ... أسئلة غبيّة وساذجة، لكنّي كنت ملزمة بالإجابة عنها، وبما أني لم أكن أجيد الكذب ، أو تزييف الواقع بأن أوهم معلمي بأني قضيت العطلة بين مدينة الألعاب والبحر، مثل أترابنا أبناء ميسوري الحال، كنت أموت ألف مرة بعدد حروف تلك الأسئلة ونقاطها وأنا أكتب أني أمضيت عطلتي الصيفية بأكملها في البيت نظرا لكون أبي لا يملك النقود لكي يقوم بتفسيحنا.
تلك الأسئلة كانت عقدة لاحقني إلى سنوات طويلة، وربما تلاحقني إلى اليوم، كيف لا وهي التي أجبرتني ذات يوم، ذات عودة أو عودات ، أمام خجلي من الإصداع بالحقيقة، على الكذب والمغالطة. نعم ما كنت قادرة على الاعتراف بأنّ أبي هو مجرّد مسحوق على أديم هذه الأرض ومن انسحاقه حصدت هذا القهر وهذا الصّغار، وكنت أبكي كلما أجبرت على الإجابة عنها، وكرهت ذلك العامل اليومي الذي كان سببا في ما أعيشه من قهر، أمر أثر حتى على مسيرتي الدراسية وعلى حالتي النفسية، حيث تعثرت في دراستي في البداية وعشت دوامة من الشعور بالعجز وقلة الحيلة خاصّة أني لم أستطع التنصّل من وقر المقارنة بيني وبين أترابي، سواء على مستوى الملبس والمأكل واللوازم المدرسية أو غيرها من لوازم الحياة التي كانت تنقصني، فتارة تعتريني ثورة عدوانية تكاد لا تبقي ولاتذر وتارة أخرى أكتفي بالانكفاء والانزواء أجترّ غربتي ووأندب حظّي فلِمَ لا أمتلك حذاء جميلا مثل حذاء سارة وأقلاما ملونة كأقلام ريهام..
التجربة الصعبة التي رافقتني طيلة سنوات المراحل الدراسية بالتعليم الإبتدائي والأساسي والثانوي، يبدو أنها استمرت معي حتى مرحلة الدراسة في الجامعة، رغم أني أيقنت وقتها، أن أبي وأمي وأنا كنا ضحية تملق وقلة حكمة بعض المربين، وبتقدمي في الوعي عرفت أن والدي وهباني كل ما يملكان، وأنهما قدما كل ما باستطاعتهما لإسعادي أنا وإخوتي.
ولكي انعتق مما كنت عليه حينها، بدأت أدرس وأدرس بكل ما أتيت من قوة، وانتقلت إلى مرحلة جديدة من حياتي وهي الجامعة أين تخصصت في دراسة الصحافة والإعلام، وكنت أقضي كالعادة عطلتي الصيفية في العمل بالمصانع والمحلات التجارية بالمنطقة وذلك لجمع بعض المال كي أوفر على أبي مشقة مصاريف دراستي الجامعية، وكنت استغل ما تبقى من يومي في مطالعة بعض الكتب الأدبية، وهي الشيء الوحيد الذي هذب طبعي العدواني.
وكي لا أنسى، فبعد تخرجي قضيت سنة في العطالة حيث لم يتسنى لي العثور على عمل منذ تخرجي نظرا لكوني افتقر للوساطة والتجربة المهنية، فإلتجئت للبحث عن عمل أعيش منه وينسيني البطالة، ووجدت أخيرا وظيفة بإحدى الروضات بمنطقة بجاوة التابعة لولاية منوبة وهي منطقة فقيرة كتلك المنطقة التي ترعرعت بها.
في تلك الرقعة من الأرض والتي لم يدم مكوثي بها كغيرها من الأشياء الجميلة في حياتي عشت أجمل لحظات عمري، رغم شح صاحبة الروضة التي منحتني فقط 250 دينارا كأجر شهري مقابل تدريسي لعدد كبير من الأطفال.
في الحقيقة خفت أول الأمر فأنا لم أعتد التعامل مع الأطفال، غير أن هؤلاء منحوني من العاطفة ما لم يقدر أحد منحي إياه، وكنت بالمقابل أعطيهم كل ما أتيت من المحبة والعطف وتوطدت علاقتي بهم بعد أن اكتشف تشابه ماضي بحاضرهم وجعلوني أغير جزءا من نظرتي للحياة.
وكان هاجسي الوحيد هو أن أرسخ فيهم ما سلب مني في سنهم، وهو الأمل والثقة بذواتهم والإيمان بها، وحاولت جاهدة أن أحول دون أن يخجلوا من حياة الفقر التي يعيشونها، نظرا لكوني عشت ما يعيشونه وقتها ولكونهم ينحدرون من عائلات فقيرة جدا، لا يملك أحيانا البعض منهم ثمن لمجته وبعض أدواته الدراسية وهذا الشيء كان يألمني بشدة.
ما أردت قوله، " أنا فخورة بما أنا عليه اليوم رغم ما مررت به من ظروف قاسية وممتنة جدا للعطف والحنان اللذان وفرهما لي والدَيْ والعطاء المدرار الذي وهبَاني اياه والذي عوضني عن حاجتي لأشياء مادية أيقنت اليوم أنها لاتساوي شيئا أمام قيمة والدي ذلك العامل اليومي الذي أفنى حياته من أجل إسعدنا وتَحملَ الظروف الصعبة من أجل إطعامنا بكرامة، رغم قلة ذات يده.
فشكرا لوالدي النورين الوحيدين وسط كل ذلك الظلام، ومرساتي حينما عصفت بي رياح الظلم وإهتززت وكدت أضيع. شكرا لكما لأنكما علمتماني وجعلتم مني ما أنا عليه اليوم.. فلولاكما ما كنت سأكتب هذه الكلمات...
وإلى كل المربين سيدي المعلم، سيدتي المعلمة.. لا علاقة لكما بمهنة والدي وأين قضيت عطلتي الصيفية وأين أقطن، فطريق العلم لا علاقة له بما أمتلك في جيبي، وأبي لم يختر أن يكون فقيرا، ولو خير ما كان ليختار مهنة الشقاء سيدي المعلم سيدتي المعلمة دعاني أجلس في الطاولة الأولى وأرفع أناملي المرتشعة للمشاركة في القسم، وعلماني كيف أتشبث بأحلامي وأواجه وحوش الحياة من أجلها
سيدي المربي ، سيدتي المربية، إن عاقبتماني يوما لغلطة قمت بها عن قصد أو عن غير قصد، ارئفا بي، فلا طاقة لجسدي الصغير على تحمل بطشكم ولا تزيدا من قهري فالحياة كفيلة بذلك سيدي المربي سيدتي المربية دعوا فكرنا ينطق بالألوان و الأحلام و اتركوا لنا فرصة الإنعتاق من كل ما قد يكبلنا فنحن نود أن نحبكم لا أن نخافكم