عن نص للكاتبة البلجيكية ايميلي نوثمب ودراماتوجيا لمعز حمزة، قدم المخرج محمد علي سعيد يوم امس، عمله الجديد "تطهير" بفضاء مسرح كورتينا بالقلعة الكبرى. هذا الفضاء الخاص الذي يمتلكه ويديره بكل اقتدار هذا المخرج الشاب كان شاهدا على عروض مسرحية متميزة تترجم اصرار هذا الفنان المبدع على جعل الفضاء قبلة لعشاق المسرح.
ويُعَد حرصه على تقديم عمله الجديد "تطهير" من انتاج شركة خديجة للانتاج في كورتينا بالذات من قبيل الضرورة النفسية والبسيكولوجية وليس المسرحية كما يؤكد المخرج نفسه في تصريحه لحقائق اونلاين.
بين النص والركح.. رحلة عذاب تَوْقُ المخرج نحو اختيار هذا النوع من التراجيديا القائمة على مفهوم التطهير، هذا العنصر الركائزي في التراجيديا اليونانية القائم اساسا على محاكاة النفس واستحضار الجوانب الخفية والمأساوية فيها والسعي الى تطهيرها من السيئات والادران والشرور، اقتضى منه الالتجاء الى نص بعينه يتلاءم وطبيعة هذا التمشي.
وقد وجد محمد علي سعيد في رواية "Cosmétiques de l'ennemi" للروائية المتميزة وصاحبة الصيت الذائع في اوروبا وخارجها، إيميلي نوثمب Amélie Nothomb ضالته. وبفضل العمل الدراماتورجي المتميز لمعز حمزة الذي راهن على هذا النص وعلى ابطال هذا العمل المسرحي الثلاثي المتميز حمودة بن حسين وناجي قنواتي ومريم قبودي، تمكن هذا الفريق من اطلاق مولود مسرحي جديد يتوفر على كل مقومات الاقناع ويمثل لبنة اخرى تنضاف الى الرصيد المسرحي الوطني.
تدور احداث هذه القصة داخل قاعة انتظار في احدى المطارات ذات يوم 24 مارس. الشخصية الرئيسية رجل اعمال موهوب وناجح (حمودة بن حسين) يلتقي بشخص (ناجي قنواتي) تبدو عليه كل علامات الاضطراب النفسي والاختلال الشعوري. يحاول هذا الشخص فرض نفسه على رجل الاعمال الذي يتظاهر بمطالعة الكتاب في حالة تبدو مصطنعة من الهدوء وراحة البال وفي عزلة تامة عن الواقع المحيط به والمليء بالحركة والصخب والضجيج. تفشل الشخصية الرئيسية او البطل في الهروب من سطوة الضيف الثقيل الذي يحاول بشتى الطرق اقناعه بالاستماع الى قصته ومشاركته همومه واحزانه وتحمل عذاب تأنيب الضمير.
مرحلة تأنيب الضمير هي المرحلة المفصلية في هذا العمل أو في هذا النوع من المسرح اذ بفضلها ستنكشف كل المساوئ وستنطلقعملية التنفيس عن المكبوتات والضغوطات التي تحملتها الشخصية، ومن ثَمّ تبرز الملامح الاولى لعمية التطهير.
يسعى هذا الشخص المسكون بهاجس الخوف من الماضي والمهووس بعقدة الذنب، احيانا بسبب واحيانا اخرى دون سبب، بكل اصرار على اقتحام سواكن رجل الاعمال الذي يتبرم من هذا الكائن الغريب الذي يحاول عنوة وبضراوة شديدة كسر كل القيود والحواجز لتحريك المشاعر الراكدة داخل البطل..
فجأة تتغير كل الامور وتنقلب كل المعطيات.. الحديث عن جريمة الاغتصاب التي تعرضت لها "بية"، فتاة في قمة الجمال والانوثة (مريم القبودي) من قبل هذا الشخص ومن ثم جريمة القتل التي تمت يوم 24 مارس تحرك سواكن رجل الاعمال الذي يكتشف ان الضيف الثقيل الذي فرض نفسه عليها عنوة هو... هو جزء منه... لا... بل هو الكل... هو... هو... هو رجع صدى لركن اسود وقاتم ومظلم... في شخصية رجل الاعمال... الرغبة في " التطهير" والتخلص من ادران الماضي هي التي حركت سواكنه ...هو حوار... بل قُلْ صراع بين شخصيتين تحتلان جسد واحد... فعلين متناقضين يجتمعان في ذهن شخص واحد... هما القاتل بارادته والمقتول بفعل تانيب ضميره... هو من قتل زوجته من فرط حبه لها... هو من تجرع كأس المأساة دون ان ينجح في نسيان فعلته المشؤومة وطي صفحة قاتمة من حياته... عقد من الزمن لم يكن كفيلا بمحو مخلفات هذه الجريمة النفسية. كان لزاما عليه ان يواري سوء عمله... لم يكن امامه من بُدّ سوى وضع حد لمأساته بالانتحار امام اعين الملأ وهو الذي ارتكب جرائمه في السر وبعيدا عن انظار الجميع... الطهارة من الدنس تقتضي غالبا المعالجة بالداء نفسه... موته الذي كان في الذكرى العاشرة لجريمته كان دواء وبلسما لدائه... الموت بداية لحياة جديدة... او هكذا يتراءى لصاحب المأساة...
انتهت رحلة عذاب البطل الذي سعى جاهدا الى البحث عن من يقاسمه هذا الاحساس بالذنب او من يواسيه مصابه .. ثلاث ساعات كانت كفيلة لتعرية حقيقة ظلت حبيسة النسيان عشر سنوات كاملة.. انطلقت الرحلة التي جاء لاجلها البطل نحو مكان غير معلوم رفض الكاتب ان يفصح عنه وبقي جسد البطل ملقى على الأرض وروحه معلقة بين اليأس والرجاء..
تجربة جديدة وتحد كبير نجح محمد علي سعيد الى حد بعيد من خلال هذا العمل، في الالتزام بتقنية السيكودراما Psychodrama التي تقتضي توفر مكونات اساسية من قبيل تغييب الديكور والسينوغرافيا المفرطة والاقتصار فقط على مؤثثات بسيطة مثل الكراسي او غيرها من العناصر كما هو الحال مع هذا العمل حيث كان المقعد الذي يتم تنقيله حسب تطور الاحداث بمثابة كرسي الاعتراف يرتجل عليه البطل ويتفاعل مع اللحظات الشعورية واللاشعورية التي يمر بها. وكذلك الأمر بالنسبة لمجموعة الحقائب المختلفة أشكالها مع محافظتها على تجانس لونها وهي دلالة على المخزون الهائل من المعاناة والشعور بالذنب لدى الشخصية الرئيسية الذي يتغير منسوبه ويتبدل بتحوّل الوضعيات من جهة، ومن جهة اخرى للدلالة على مكان سير الاحداث وهو أحد المطارات التي لم يتم تحديد مكان تواجد وفي ذلك اشارة واضحة الى "لامكانية" المأساة وعدم ارتباطها برقعة جغرافية معينة.
الامعان في السواد والقتامة مع الاقتصار على اللونين الاسود والاحمر القاني الذان يرمزان الى الشر والموت والحزن والدم مع اعتماد الضوء الخافت والمؤثرات الصوتية الهادئة حينا والصاخبة حينا اخر في تناغم جَلي مع تطورات الأحداث وتغير مزاجات الممثلين وتفاعلاتهم، اضفى على هذا العمل رونقا واثبت ان المخرج كان دقيقا وشديد الحرص على الالمام بكل تفاصيل عمله. وهو ما أكده الممثل حمودة بن حسين لحقائق اونلاين حيث وصف محمد علي سعيد بالصارم والدقيق. ولم يخف بن حسين في هذا السياق سعادته وانبهاره بطريقة العمل التي ينتهجها المخرج والتي وصفها بالمتعبة والممتعة في الآن ذاته.
ولم يخف بن حسين رضاه التام وشغفه بالتعامل مع هذا الدور الذي قال عنه انه " مختلف عن بقية الادوار التي اداها بالنظر الى حالة التعقيد التي حفت بهذه الشخصية المركبة والتي تطلب اتقان آدائها الكثير من الجهد والتمرين خصوصا في ما يتعلق بتفاعلها مع الشخصيات الاخرى المشاركة لها في هذا العمل"
هذا الالتزام بمثل هذا النوع من المسرح الذي يرتكز اساسا على جانب التطهير النفسي للشخصية الرئيسية ومحاولة اكتساب تعاطف الجمهور ورأفته ومشاركته حزنه ومأساته، ساعد الممثلين الى حد بعيد على التحرر من العقد وتشخيص ادوارهم العلاجية بطريقة عفوية بعيدا عن كل اشكال التكلف وهو ما لم يَخْفَ على الحاضرين من الممثلين الذين جاؤوا لاكتشاف هذا العمل، على غرار جمال المداني وجمال العروي وانتصار العيساوي وغيرهم من الفنانين الذين اثنوا كثيراكثيرا على هذه المسرحية.
ورغم ان "النص مرعب ومخيف وهو ما دفعني الى التعامل معه بكل حذر واكثر صرامة"، على حسب قول المخرج محمد علي سعيد، الا انه لم يستعص عليه تطويعه واخراجه بطريقة مستساغة للجمهور الذي سيفاجأ حتما برفعة هذا العمل وتميزه والذي يعتبره صاحبه "تجربة جديدة ونوع مختلف من المسرح ومن النصوص المسرحية التي بدات العمل عليها مؤخرا والتي تمثل لي تحد أكبر."
جيل جديد ومتميز من المسرحيين لعل الاختيار الدقيق للثلاثي حمودة بن حسين وناجي قنواتي ومريم قبودي الذين ابدوا انسجاما وتفاعلا لا محدود مع النص، ساهم بقسط وافر في الخروج بهذا العمل، الذي عرض امام لجنة الدعم، الى بر الأمان. السلاسة والسهولة الكبيرة في التواصل بين المخرج والمؤدين قد ساهم في ازاحة العراقيل خصوصا مع صعوبة النص الذي فيه "بحث كبير"، بحسب مريم القبودي التي كان لها تجربة سابقة مع المخرج محمد علي سعيد في مسرحيته الاخيرة "جرائم زوجية" رفقة المتميز توفيق البحري.
وبالرغم من ظهورها المقتضب خلال هذا العمل الذي دام ساعة كاملة الا انها استطاعت ان تخطف الانظار اليها بفضل تمكنها من الدور المحوري الذي اوكل اليها وبفضل ايمانها ان "لا وجود لدور قصير او طويل بل هناك ممثل كبير وممثل صغير" كما أسَرٌت لنا بطلة هذا العمل. وكذلك الشان بالنسبة لحمودة بن حسين وناجي قنواتي الذان ابديا تكاملا وانسجاما كبيرين خصوصا ان طبيعة الدورين الذين انيطا بعهدتيهما يفرض عليهما التفاعل والتحرك والفعل ورد الفعل بطريقة مدروسة وفي غاية الدقة والتماهي وهو ما يبرهن ان عملا كبيرا قد أُنجِز وجهدا كبيرا قد بُذٍل وطاقة عالية قد استُنزِفت في التحضير لهذه المسرحية.
هذا العمل رسّخ مرة أخرى القناعة بأننا ازاء جيل جديد من المسرحيين المبدعين والقادرين على التاقلم مع كل انواع المسرح خصوصا ان هذا الثلاثي الذي يجتمع لاول مرة قد سبق له المشاركة في اعمال مسرحية اخرى نالت جوائز على الصعيد الوطني والعربي كما هو الشأن بالنسبة لحمودة بن حسين في مسرحية "ليس بعد" التي تم عرضها سابقا على خشبات مسرح كورتينا والتي اداها مع الفنانة الشابة والمتميزة انتصار عيساوي.
"تطهير"، عمل مسرحي ينضاف الى رصيد المخرج الهادئ محمد علي سعيد الذي يعمل في صمت وبكل ثقة في النفس. ورغم ايمانه ان الفعل المسرحي في بلادنا لا يحظى بالاهتمام اللازم من قبل سلط الاشراف وحتى الجماهير التي هجرت المسارح، فان طاقة مخرج "نهير خريف" و"جرائم زوجية" لا تنضب واصراره لا يخفت وهو لا يزال مصرا على المضي قدما في تحقيق ما امكن له من الطموحات التي رسمها في عالم المسرح فقط... وليس خارجه.
جذاذة فنية: اسم العمل:"تطهير" اخراج وسينوغرافيا: محمد علي سعيد دراماتورجيا: معز حمزة تمثيل: ناجي قنواتي وحمودة بن حسين ومريم القبودي اضاءة: لطفي معاوية توضيب عام: هشام الباهي الملابس: هندة عبيد وجليلة المداني الانتاج: شركة خديجة للانتاج مدة العرض: 60 دقيقة