من القنوات التي خلّفت في تونس ما بعد 14 جانفي، جدلا كبيرا حول هُويتها ،وطبيعة البرامج فيها، والرسالة الإعلامية التي تؤديها، قناة "التونسيّة". ولا يملك المتابع إزاء ما تنتجه هذه القناة من برامج سياسية حواريّة إلّا أن يسأل عن الجهة المستفيدة من هذا الدويّ الذي تثيره البرامج، وعن الجهة المستهدفة بالنقد والتشهير. على أنّ الأمر يزداد غرابة عندما يتبيّن أنّ الذين يطعنون في شرعيّة وجود قناة "التونسيّة"، ويرددون جهرا وخفية أنّها من إعلام العار،ورأس الثورة المضادة، هم أنفسهم الذين يتهافتون على حلقات النقاش فيها ،ولا يفوتون الفرصة للظهور في برامجها!. بل إنّ أغلب هؤلاء ذهب في الاحتفاء بهذه القناة بعيدا عندما قبل بصدر رحب أن يعيش لحظات رعب في مواجهة تمساح ينتظر فريسته على باب المصعد. ولئن كان من السابق لأوانه تبيّن التمساح الحقيقي الذي كان ينتظر صعود هذه القناة كي ينقضّ عليها وقد كسا عظمَها اللحمُ،فإنّ التساؤل عن الدور الذي تلعبه عند وقوفها بعناد في وجه السلطة الجديدة وإعلان مناوأتها رغم ترسانة القوانين التي تجنَّد لإخماد صوتها يظلّ مشروعا. فهل دار في خلد مَنْ استنبط فكرة التمساح الذي ينتظر "ضيفه" وهو يغادر المصعد أنّ تمساحا حقيقيّا آخر كان يشاهد اللعبة المسلية ويستلهم منها العبر لتخيّر الوقت المناسب كي ينقضّ على ما تبقّى من "التونسية" بعد أن قضى القضاء المستقلّ في تونس بحبس صاحب القناة،وتعيين مصفّ يراقب أمواله التي أسالت لعاب كثيرين من داخل القناة ومن خارجها. دمعة التمساح الأولى: احتجاز سامي الفهري ربما نسي البعض أنّ المكلف بملف الإعلام في حكومة حمادي الجبالي هو الذي قاد حملات تطهير الإعلام وكان وراء اعتصام التلفزة بالدعم والتحريض .لذا كان ضروريا أن يغلّف احتجاز سامي الفهري في ورق من "السيلوفان" يزيّنه شعار رنان "تطهير الإعلام". وإلى الآن ،مازال احتجاز سامي الفهري في سجن المرناقية يثير أكثر من استفهام عن طبيعة العلاقة التي نشأت بين السلطة الجديدة في تونس وبين السلطة الرابعة. أفلم يكن من الأسلم قضائيا وسياسيا أن تتم محاكمة "رأس إعلام العار" وهو في حالة سراح كي تتوفّر له كلّ الوسائل القانونيّة للدفاع عن نفسه أمام قضاء عادل مستقل؟ والأكيد أنّه لا يمكن بأي حال من الأحوال الدفاع عن هذا الرجل إذا ثبت تلاعبه بالمال العام وتورّطه في عمليات مشبوهةإذ لا أحد فوق القانون وإن كان رجل إعلام ناجحا. تلك هي حكمة ما عرفته تونس في انتفاضتها على الظلم والقهر. ولكن كيفما كان الردّ على قانونية الاحتجاز من عدمها يظل ملف "سامي الفهري" مثقلا بالأسئلة المحيّرة. حتى نما الشك بأن ما يجري هو محاولة للبحث عن كبش فداء بعد أن أصبح المواطن يطالب بمحاسبة المفسدين وبإرجاع الأموال المنهوبة. لكن ،أليس من نكد الأقدار أن يُحْجَزَ "سامي الفهري" بشبهة سرقة بعض مال الشعب التي لم يثبتها القضاء إلى الآن، في حين يذهب السيّد "علي لعريض "إلى السعودية في زيارة رسميّة يلتقي فيها بالملك السعودي ولا حديث ولو خافت عن السارق الأكبر المحميّ في قصر من قصور السعوديّة! ألا ينطبق على تونس في هذه الحال المثل الذي يتحدث عن ذلك المغفّل الذي أطلق سراح الحمام ثم جرى تحته ليقبض عليه؟ دمعة التمساح الثانية:تذبذب الذبذبات أتت الأخبار بما يفيد أنّ مالك تردّد قناة التونسية الفرنسي الجنسية وجد نفسه في ضائقة ماليّة فاضطر لعرض الذبذبة للبيع.ويبدو أن ذبذبات قناة "إعلام العار"أسالت لعاب كثير من المستثمرين والسياسيين العرب والأجانب. وكادت القناة تتحوّل من "إعلام العار" إلى "إعلام الغاز" بعد أن تبيّن أن جهات عربية متنفّذة أرادت شراء الذبذبات. وفجأة تمّ الإعلان عن شراء رجل أعمال وسياسة تونسي للذبذبات. وقُدِّمَ الأمر على أنّه ضرب من ضروب الوطنية.إذ ظهر في الإعلام المحايد الخالي من ثاني "أوكسيد العار"، أنّ رجل أعمال تونسي غيور تحمّس لاسترجاع ذبذبات تونسية كادت تصبح قطرية أو سعوديّة وتحلّق بعيدا عن السماء التونسيّة! ويبدو أنّ هواة المديح-حتّى من داخل القناة-قد استجمعوا كلّ ماضيهم النضالي في المدح وشرعوا في الحديث عن المنقذ من الذبذبات الذي سيذبذب الخصوم،وسيذب عن التونسية ويسعى إلى الرفع من شأنها. و بسرعة انطلق "الميركاتو". وسجّلت "التونسية" بداية الغيث بانتداب منشّط تلفزي يميل كثيرا إلى تغيير الألوان.وبدا واضحا أنّ عمليّة الانتداب هذه لا تختلف كثيرا عن الطريقة التي اشترى بها فريق عريق ترسانة من اللاعبين بمبالغ خيالية ليخرج الفريق خاوي اليدين تلفّه الحسرة ويطويه الخسران. الزلزال مع اقتراب شهر رمضان ،وظهور لقطات إشهارية لبرنامج "الزلزال" الذي عوّض "التمساح" فوجئ مشاهدو قناة التونسيّة بانقطاع البث،وبظهور شارة جديدة تبشّر بأن القناة قد أنجبت توأما لتصبح ثلاثة في واحد.وتبيّن فيما بعد أن مالك الذبذبات الجديد"السيّد نظيف" اكتشف تلاعبا في أموال القناة وارتأى حماية مصالحه بفتح تحقيق حول التلاعب بالأموال!. يقتضي الإنصاف الإشارةَ إلى أنّه من حق المستثمر أن يطمئن على السير الواضح والشفاف لمشروع يعتبر طرفا فيه. ورغبة مالك الذبذبات الجديد في وضع النقاط على الحروف مسألة لا تخلو من وجاهة ومن حكمة.لكن ماذا يعني قطع البث قبل يومين من انطلاق موسم الإشهار؟ وهل يخفى على القاصي والداني أن التلفزة التي لا تنال نصيبا وافرا من الإشهار في رمضان تعيش طوال السنة في ضائقة ماليّة قد لا تنجح ابتسامة المنشطين وأناقتهم في إخفائها؟. فأين الحكمة في وضع القناة في حرج مع المستثمرين الذين آمنوا بقدرة برامج قناة "التونسية" على تسجيل أعلى نسب المشاهدة دون مبالغة أو تهويل؟ لصالح مَنْ ضرب هذه القناة في مقتل والتربص بها في منعطف خطير لإسكاتها نهائيّا؟ إنّ الحقيقة التي لا اختلاف حولها هي أنّ تواصل حبس سامي الفهري صاحب قناة التونسيّة الزرقاء اللون يدخل في سياسة ممنهجة تستهدف القناة. ويبقى للتاريخ أن يحدّد إن كان استمرار حبس سامي الفهري مسألة قانونيّة صرفة لم يتدخّل فيها بعض أعدائه المزعومين الذين يريدون ردمه حيّا ام مجرّد "نيران صديقة" لم يغب فيها الطعن في الظهر. إذ كم من متباك على صاحب القناة لا يريد في قرارة نفسه لهذا الشاب الوسيم أن يعود إلى الشاشة من جديد.