تبدأ الرحلة في مسرحية "المندرة" على متن قطار يأخذ الممثلين والجمهور إلى مصنع قديم حيث ستبدأ رحلتهم في الحياة البشرية انطلاقا من أحداث من الواقع الراهن. ومسرحية "المندرة" تمّ تقديمها في عرض ما قبل الأوّل أمس الأوّل بقاعة الفن الرابع، وهو عمل من إخراج الصحبي عمر وأداء يحيى فايدي وهناء شعشوع ومراد بن نافلة وأيمن السليتي وأصالة كواص وأسامة غلام وأسامة ماكني وإيمان الحجري. وساعد في الإخراج عبد الستار مرازقية وتقني إنارة شوقي مشاقي وتقني موسيقى صابر القاسمي وملابس وماكياج آمنة مهذبي.
تدور أحداث "المندرة" في مصنع لإنتاج مواد استهلاكية، لجأ إليه مجموعة من الناس للاحتماء به بعد ورود أنباء عن احتمال وقوع حرب في المنطقة، وقد أغلقوا على أنفسهم وسط المصنع وانعزلوا عن العالم الخارجي، وفي الأثناء ينشب صراع وتندلع حرب بينهم. وقد استوحى المخرج الفكرة العامة لل "المندرة" من مسرحية "تخريف ثنائي" ل "يوجين يونسكو".
الممثّل أساس اللعبة المسرحية وهذه المسرحية بما هي عمل تجريبيّ أو تتجاوز ماهو تجربي وبحث حرّ عن كتابات ركحية جديدة وغير مألوفة بالاعتماد على مدارس وتجارب مسرحية عالمية أهمها الأمريكي "بوب ويلسون" و"بيتر بروك"، ارتكزت بالأساس على لعب الممثلين على الركح لإيمان المخرج بأن الممثل هو جوهر العملية المسرحية. فتراوح أداء الممثلين بين السكون تارة والهيجان طورا انسجاما مع خصوصية كلّ مشهد وكلّ موقف للتعبير عن أحاسيس الوجع والظلم والطغيان والتسلّط والطبقية والحرب والرّهبة والصراع.
وهذه الخصوصية في أداء الممثل، وظّفها المخرج أيضا للتصعيد في إيقاع العرض الذي دام 100 دقيقة، وذلك تماشيا مع ذروة الأحداث وبنية المسرحية التراجيدية.
واهتمام الصحبي عمر بالممثّل باعتباره أساس العملية المسرحية في "المندرة"، جعله يُغيّب الديكور، ليكتفيَ ببعض الأكسيسوارات كالبندير والمنشار والمطرقة والصحون، فابتكر آليات ركحية جديدة وأضفى تغييرات على بعض المفاهيم الركحية كالأكسيسوارات التي أدّت وظائف مغايرة غير وظائفها الكلاسيكية السائدة: فالبندير مثلا في "المندرة" كان رمزا للملفات وما يحمله ايضا من معاني أخرى في الاجتماعات والخطب السياسية، والصحون تحوّلت إلى أدوات للقتل.
توظيف السينما وتوجّه المخرج نحو اعتماد الفضاء الفارغ، مع إضفاء مؤثرات موسيقية وأخرى ضوئية لتجسيد المكان والزمان. كما اعتنى بالجانب السينمائي للعرض أي أنه حمل السينما إلى المسرح لا باعتماد التكنولوجيا وإنما تشكّلت هذه العملية السينمائية في المسرح من خلال "السيناريو" وأداء الممثل والاقتصاد في النص، وهي من خصوصيات السينما التي ترتكز على جمالية الصورة، وبذلك أضحى الركح شاشة سينمائية تتجوّل فيها عدسة الكاميرا بين عديد الأماكن في الفضاء الواحد أي بين المصنع ومحتوياته من مطعم ومكاتب وغرف العملة وغيرها.
يبدو تأثر الصحبي عمر جليّا بالمسرحي البريطاني "بيتر بروك"، وهو ما يبرز في التقسيم المكاني للركح إلى عدّة فضاءات مستخدما تقنية الإنارة، وهي أماكن قائمة على التضادّ خدمة لثنائية الحياة والعدم. وللمكان في "المندرة" أمكنة ارتكز عليها هذا العمل المسرحي، وتمّ تسخيرها للتعبير عن عمق الحكاية من ناحية، ولطرح جمالية جديدة جعلت من العرض حيّا وعميقا شكلا وتعبيرا وصوتا وصورة. وهذه الأمكنة تتدرّج من العام إلى الخاص وممّا هو شاسع إلى ماهو ضيّق فأكثر ضيقا، إذ يظهر المصنع ثم المطعم ثم غرف العملة أو مكتب المدير ثم السجن الانفرادي وصولا إلى المقبرة وما ترمز إليه من عدم ونهاية الرحلة الوجودية للإنسان.
مشاهد متكرّرة لتأكيد الخطر
لقد تميّزت مسرحية "المندرة" بتكرار بعض المشاهد والمواقف. وهذا الأسلوب أي "التكرار" وظّفه المخرج للتأكيد على حالة الصّراع من أجل البقاء وعلى حالة التشتت والانقسام والعنف والحرب، فكان الجانب النفسي هو السمة الطاغية على العرض لإبراز حالة التمزّق والتخبّط التي تعيشها الذات البشرية في علاقة الأنا بالآخر. ولعلّ المخرج أراد من خلال تكرار بعض المشاهد الصادمة ترسيخ صورة هذا الصراع والعنف في ذهن المتلقي، فجعل من مشاهد الموت والقسوة والمعاناة السمة الطاغية على مشاهد العرض.
وحاول الصحبي عمر، انطلاقا من الخصائص الفنية المميزة ل "المندرة" كالسينوغرافيا وأداء الممثل، التعبير عن مجموعة من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمن القضايا السياسية تواصل الصراع بين الطبقة السياسية على الحكم ممّا جعل البلاد تكاد تكون متقوقعة على نفسها في علاقة بمحيطها الخارجي وعلاقاتها مع بقية الدول.
وأما القضايا الاجتماعية والاقتصادية فهي عديدة وتعكس تدني المرتبة الإنسانية للطبقة العاملة التي أصبحت مُفقّرة في مجتمع استهلاكي يُعاني من وضعية اقتصادية واجتماعية هشة جدّا.
ولذلك فإن المخرج يدعو إلى الثورة على الذات قبل الثورة على الآخر ما دامت الثورة على الآخر لم تحقّق أهدافها.