كانت الساعة تشير الى الساعة السابعة وعشر دقائق تقريبا من مساء يوم اثنين. أشعة شمس المغيب تودع مرتفعات شعنبانستان. أنزلتنا الالية العسكرية رباعية الدفع أمام مركز المراقبة الذي لا يبعد الا بعض عشرات من الامتار من محطة الارسال التابعة للتلفزة الوطنية التي تنتصب في قمة الجبل. طوال المسلك الغابي لم يتوقف هاتفي الجوال عن الرنين. لم أرد ، كان الملازم يراقب تصرفاتنا طوال الطريق بنظرات حادة. التوصيات كانت صارمة، الانتباه ثم الانتباه على طول المسالك الغابية المؤدية الى القمة. كل الجبل اعتبر منذ بضعة أشهر منطقة عسكرية مغلقة. ترددت الحكايات حول خطورة الكائنات التي تتحصن فيه دون ان نرسم لها ملمحا ولا نكشف لها وجها. تعددت الروايات والتخييلات حول هذه الكائنات الغريبة. اهل المدينة يتحدثون عن اساطير ومؤامرات وحكايات ولا أحد منا عاين هؤلاء الغرباء. فقط اثارهم دلت عليهم. خيام وألغام وتفجيرات وحكايات لا تنتهي. بوصفي أحد القادمين الجدد لشعنبانستان استمعت في مهاجع الجنود للكثير من هذه الحكايات والروايات حول هذه الكائنات الغريبة. كان نهارنا كما ليلنا مع ارتفاع حرارة الطقس شاقا في منعرجات الجبل في التمشيط والمراقبة و وتتبع الاثار للعثور على هذه الاشباح. الاوقات القليلة التي افرغ فيها الى نفسي اقضيها بين مهاتفة أمي وخطيبتي. مع اوقات المغيب تكون خطيبتي على الخط كعادتها. تهاتفني قبل غروب الشمس، قبل موعد الافطار. في أوقات الاسترخاء ترن علي أمي لاهاتفها بعد عودتها من صلوات التراويح منذ ان حل شهر رمضان.. لا جديد في الجبل، كلنا بخير . هذا ردي اليومي عليهما .. أسأل عن جديد قريتنا التي لم يتغير فيها شيء منذ أن رحلت عنها. بمجرد ان غادرتنا الالية العسكرية شرعنا في التهيؤ للالتحاق بمركز المراقبة. فجأة هز الطريق انفجار تلته انفجارات اخرى.. عم الدخان المسلك الغابي، اندلع حريق هائل وتناثرت اجزاء الالية العسكرية بين جنبات الطريق. سمعنا اولى طلقات الرصاص التي اصبحت زخات متتابعة . لم يمهلونا كثيرا لكي نتفرق على جانبي الطريق. في البداية لم نر احدا . كنا فقط نستمع الى أصواتهم وهم يرددون عبارات مبهمة بلغة غير مفهومة. تتابعت الصيحات وكانها اتية من بئر عميقة، تكاثفت زخات الرصاص. عرفنا انهم هم. لم يمنع انبطاحنا على جانبي الطريق من اصابة اغلبنا. كان من الواضح انهم يرمون الرصاص تجاهنا من اعالي طرفي الطريق. اختلطت رائحة البارود والدمار. عرفت اني اصبت في قدمي ورصاصات اخرى اخترقت جانبي الايمن. رأسي مازال سليما. لم اتحرك لانهم واصلوا اطلاق الرصاص. ظل الطرف الايسر من رأٍسي على جزء من الاسفلت البارد المعبد للطريق. عرفت انها النهاية. بسملت. تلوت ايات قصارا حفظتها أيام الطفولة والمدرسة. دم الجندي القريب مني انسكب في اتجاهي. كان دما احمرا قانيا ساخنا. مس اجزاء من شفتي. وبلل اجزاء من رأسي.حاولت اغلاق فمي. كان طعمه بين الملوحة والمرارة. لا أدري. حاولت ان اخفي انين الاصابة لانهم واصلوا اطلاق زخات الرصاص من كل جانب. واصلوا اطلاق صيحاتهم الغريبة. كانت عباراتهم المبهمة بنبرات مختلفة غريبة عن كل ما الفنا سماعه من قبل. مع اقتراب اصواتهم منا عرفت ان عباراتهم المبهمة لم تكن الا تكبيرات. غير ان كلمة الله فيها مختلفة عن الله الذي نعرفه. كنت استمع الى التكبيرات المتتالية ممزوجة برائحة البارود ودم زميلي الساخن الذي يمس شفتي. كان ينطق بالشهادتين وكانوا يكبرون ويحمدلون لمقتله. كنت استمعت اليه يردد الشهادتين. كانت كلمة الله في شهادته مختلفة عن الههم. كان اسم الله يخرج من فمه يطلب المغفرة والرحمة ،حزينا جريحا نازفا دما وكان الله عندهم يكشر عن أنيابه يطلق الرصاص بلا هوادة وبشراسة . كان الههم كاسطورة الغول والعنقاء. كان الله له معنى اخر عند هؤلاء. بالتأكيد اذا ما رأت امي مشهدي وانا طريح ورفاقي ينزفون ستكفر بربهم وتعلن دخولها رسميا الى عالم الملاحدة والاأدريين. توقفت زخات الرصاص شيئا فشيئا .. استمعت الى قفز وصوت أحذية ثقيلة. توقفت على الحراك تماما. الالم يهز احشائي. لم ابال. الم بحجم الجبال يهز جسدي. منشار ينخر بطني.. يقطع اوصالي. اني انزف من كل عضو في بدني . عيني اليسرى ظلت نصف مفتوحة. استمعت اليهم. "الله أكبر ولله الحمد" كانوا يرددون. "هيا .. هيا.. هذا مازال حي.." في اشارة الى أحد زملائي. "هات السكين. الله اكبر." سمعت بعدها شخيرا ذكرني بعيد الاضحى. اخر عيد كان في القرية اذكره جيدا. كانت أمي تجلس القرفصاء أمام "براد" الشاي. أغنية تنبعث من المذياع. لا اتذكرها جيدا. أظن أنها اغنية لفيروز. السكين الذي جز به ابي الشاة لا يشبه بالتأكيد سكينهم كما لا يشبه ربهم ربنا. الله أكبر . كانوا يرددون هذه العبارة مرارا. لم أعد أفهم معناها. أصبحت عبارة مبهمة بلغة لا أفهمها واحذيتهم تدوس أجساد زملائي . أحاول فهم معاني التكبير. الله أكبر هذه المرة كانت مختلفة عن أول مرة سمعتها في فيلم الرسالة للعقاد. استمعت الى هذه العبارة الغريبة السنة الماضية في فيلم "عمرو". كنت أستمع الى هذه العبارة كل يوم خمس مرات من مئذنة قريتنا. تغنيت بها مستعرضا أوتار صوتي مع الرفاق طويلا. هذه المرة كانت مختلفة. كانت بشعة ممزوجة برائحة الكراهية والموت والدمار. سمعت شيئا ما. لم افهمه في البداية. كان رأسي يجانب جثة زميل لي عندما لمحت انهم ينزعون سرواله بقوة. . اه يا الله.. سمعت هاتفا يرن. اعتقد انه هاتفي.. ظل الهاتف يرن. عاود الرنين حتى اغلقه أحدهم. خاطبه مرافقه"لا ترد.. اغلقه تماما". "هذا أيضا مازال حي".. ظننت اني انا المقصود. خاب ظني. سمعت طلقات رصاص متتابعة. بعدها تكبير ثم انسكب دم ساخن من جهتي اليمنى. ذبحوه. لا ادري. لم استطع التأكد. أحدهم داس رجلي اليسرى. لمحت نصف جلابية تحتها سروال أسود. بالفعل.. انهم هم. تأكدت انهم هم. ردة فعلي اللاارادية عندما داس ساقي جعلته يتفطن الى اني مازلت حيا. "هذا أيضا مازال حي"َ! تجمدت الدماء في عروقي. تذكرت امي وابي واخوتي. وزواجي الذي لن يتم. تذكرت القرية. شجرة الزيتون التي تحاذي مدخل الباب. مرت في مخيلتي في لحظات كل ساعات الفرح في الجنان مع اولاد "الحومة". كنا كل صيف نسبح في بركة "الجنان".. بركة الجنان التي تتوسط الواحة، الواحة التي تحيط بالقرية من كل جانب. اليوم أجدني لسبب أجهله في بركة دم تحت أصوات تكبيرات غريبة. لا تقتله بالرصاص.. انتظر.. خاطب أحدهم. "استعمل السكين". فتحت عيني. التفت الى صاحب الجلباب الاسود. رأيت لاول مرة في حياتي وجه الموت بلا أقنعة. قاتم وجهه. عبوس قمطرير. يهذي بعبارات لم افهمها. يرتل شيئا ما. نصف وجهه مغطى بلحية كثيرة معفرة. اغبر لم يمسس الماء جسده منذ امد. قميصه مخضب بالدم وشيء ما أسود يشبه البنزين لا ادري. تنبعث منه رائحة نتنة غريبة الارجح انها رائحة الدم الذي شممته منذ لحظات. لم يسألني من انا.. لم يسألني عن اسمي.. ما هي هويتي؟ لم يكلمني.. لم يسألني عن امي.. لم يسألني عن قريتي التي ولدت فيها .. لم يبحث عن ديني ولا افكاري.. فكرت قبل ان يشرع في ذبحي أن أترك له وصية.. "بلغ سلامي الى أمي".. لم استطع الكلام، ضاع صوتي تحت ضغط حذائه... كان حذاءا ملطخا بشيء ما أظنه أديم الارض الاسود. عندما هممت بأن أرفع رأسي زاد في ضغط حذائه بغلظة على رأسي. اطلق تكبيره الذي لم أعد أفهمه ثم جز رقبتي. نخر نصل السكين عروق رقبتي. الم تشيب من هوله الولدان. ثم مت. صعدت روحي الى أقرب شجرة على حافة الطريق تنظر الى جثتي الملقاة والدم ينزف منها. نظرت اليهم وهم يسرقوننا ثم ينزعون ملابسنا.. كانت جثثنا في بركة دماء. حملوا ملابسنا العسكرية معهم. لا ادري ماذا سيفعلون ببدلة جندي قتل مذبوحا مثلي. لا يهم. صعدت روحي الى السماء. في منتصف الطريق استقبلتني الملائكة وحملتني اليه. نظرت في ملكوته. خاطبته بأني لا اريد دخول الجنة. لي طلب وحيد أتوسله منك: من هم هؤلاء الذين ذبحوني ؟! **ملاحظة : كل تفاصيل الحكاية المروية هي من محض الخيال وأ ي تشابه بينها و بين قصة اخرى في الواقع هو من قبيل الصدفة.