تمخّض الجبل فولد فأرا، هذا كلّ ما يمكن استخلاصه من إعلان النهضة قبولها بمبادرة اتّحاد الشغل كمنطلق للحوار الوطني. تصريح رئيس النهضة ,الذي انقضّت عليه وسائل الإعلام ونقلته على اعتبار أنّه نصر عظيم وقفزة نوعيّة في اتّجاه حلّ الأزمة السياسيّة الخانقة , لم يمر دون أن يفقد كنْهه ليتحوّل على لسان الناطقين باسم الحركة وأعضاد الشيخ إلى كلام مبهم ومتلون ومتناقض وسفسطائي. الواضح من خلال هذا الايهام بخلط الأوراق وابداء رغبة وهمية في التحرك في الاتجاه الايجابي من قبل الحركة التي ما فتئت تراوح مكانها وترفض التزحزح عن موقفها ، أنّ الأمر لم يعد يتعلّق بمسألة صراع سياسي عادي يتطلّب تقديم التنازلات من هذا الطرف أو ذاك لفك شفرة الأزمة السياسيّة. لقد بات الامر مسألة ليّ ذراع وعناد ومناطحة بين حزب ذي مرجعيّة دينيّة يريد بسط نفوذه وتعويض سنوات من الحرمان والتهميش و يرغب في الانتقام من جلاديه مع تأجيل التنفيذ ولو الى حين ويخشى كذلك العودة إلى السجون والمنافي بمجرّد سقوطه من الحكم وكأنه ليس هنالك منزلة بين المنزلتين ..و بين معارضة استشعرت الخطر مبكّرا فرفعت شعار «لا ديمقراطية مع الدين» ولكن أعوزتها الوسيلة وخانتها الحيلة لوقف هذا التيّار الجارف إلى أن جاءتها الفرصة المناسبة لتنقضّ على خصمها فأصبحت لا ترضى بديلا بغير خروج الاسلاميين ومن وَالاَهم من الحكم . وبين تلاعب من في الحكم بالكلام , وبين كلام من في المعارضة عن رفض هذا التلاعب , يستمر الصراع المرير دون هوادة ودون قدرة اي كان على التنبؤ بنهايته خصوصا في ظل التصعيد الذي تقوم به المعارضة في ما يعرف بجمعة الرحيل لطرد الاسلاميين من السلطة. لكن، ورغم تأكيد من في السلطة ومعارضيهم أنّ الصراع يبقى دائما سياسيّا , فإنّ واقع الأمر عكس ذلك تماما. فحالة التصادم وليّ الذراع والتراشق بالتهم بطريقة مباشرة وغير مباشرة عبر التصريحات إلى حدود الاتّهام بالتخوين واللاوطنيّة تؤكّد طبيعة الصّراع الإيديولوجي الذي استشرى داخل الطبقة السياسية. فمن النادر مثلا أن يدور نقاش يجمع أطرافا من اليمين واليسار دون مشادات واتهامات وعنف لفظي تستعمل فيه كل الصفات الايديولوجية من قبيل شيوعي وماركسي متطرف وعلماني ملحد ..و صفر فاصل و ايتام فرنسا والاستعمار ..واسلامي متطرف وارهابي وغيرها من النعوت التي لا تصلح الا لتأجيج الصراع وإذكاء نار الفتنة وصب الزيت على النار. علينا ان نعترف ان الصراع المحتدم اليوم بين الاسلاميين في السلطة وجزء كبير من المعارضة هو صراع قديم-جديد يغلب عليه منطق تصفية الحسابات بعيدا عن الشعارات الرنانة التي يدعي من خلالها كلا الطرفين الدفاع عن الشرعية الشعبية وارادة الشعب ومصلحة الشعب وغيرها من العبارات البالية التي سئمها الشعب و عيل صبره من سماعها دون أن يلمس رغبة حقيقية في تجسيمها. لقد بات هذا الصراع الذي استعمل فيه الشعب المسكين مَطيّة صراعا مُعلنا والكل يُقرّ بأن الشعب يتم استعماله وقودا لهذه الحرب الضروس بين الاسلاميين وخصومهم الأزليين. فصعود الإسلام السياسي إلى السلطة في بلادنا لم ولن يكون محلّ ترحاب لدى النخب السياسيّة الديمقراطيّة والحداثيّة. أما بالنسبة لمن في السلطة من الإسلاميين فهم يرون في المعارضة شرّا ومقتا وفتنة تهدد وجودهم و تتربص بعرشهم وعليه وجب إزاحتها بكلّ الطرق وإقصاؤها بتكريس كل الوسائل والفضاءات المتاحة لتكفيرها وشيطنتها لكن طبعا دون تبني هذه السياسة علنا. هذا المنسوب الهائل من الحقد الدفين بين الطرفين الذي ما فتئ يتجلى عبر اسلوب الاستعلاء والعنجهية وفرض اللاءات الدائمة في اشارة واضحة الى انسداد قنوات الحوار جعل كلا الطرفين يتفنن في استعمال الحيل وفنون المراوغة للايقاع بالخصم والانتصار عليه. و المتأمّل في تصريحات زعماء النهضة لا يخامره الشك في أنّ حركة النهضة مثلا طالما اعتمدت مبدأ المناورة بهدف «تنويم» خصومها وارباكهم ثمّ النيل منهم. وقد ساهم هذا التكتيك في هز مصداقية الاسلاميين إلى الأبد وفقدهم الثقة لدى محاوريهم الذين عجزوا عن فك طلاسم رسائلهم الغامضة إذ أنّه أصبح من الصعب الحصول على تصريحين لقائدين من النهضة متطابقين في المعنى حتى باستعمال الكلمات نفسها. فالعبارات واحدة والمقاصد كثيرة ومتباعدة إلى درجة التناقض. هذا التمشّي الذي انتهجته الحركة ربّما لتخفيف الضغط عليها من خلال تلونها واختلاف مواقفها وتفاعلها بهذا الشكل العبثي وغير الجدي مع ما يعرف بمقولة «اعمل مهبول تعيش» قصد كسب مزيد من الوقت ، ساهم في عزلتها شيئا فشيئا وأفقد خصومها الرغبة في محاورتها مما ساهم بقسط وافر في جعل المعارضة أكثر راديكاليّة وأكثر اصرارا على المضيّ قدما في مطالبها لتيَقّنِها من أن فاقد الشيء لا يعطيه وأن الشيء من مأتاه لا يُستغرب. هذا التصلب في موقف المعارضة ,رغم ما تسرّب عن عودة الودّ بين الشيخين راشد والباجي إثر لقائهما في أرض محايدة جدّا (فرنسا) وكأنّما الأمر يتعلّق بنزاع دولي، ترجمَتْه عبر رفضها المطلق لتنازل حركة النهضة الوهمي والمزعوم، اذ تعتبر أنّ اللّقاءات الماراطونيّة بين الغنوشي وحسين العباسي الأمين العام للاتّحاد تصبّ في خانة ربح الوقت وتقليص الضغط على الحركة والأهم محاولة «توريط» المنظّمة الشغيلة في مساومات سياسية عبثية واسقاطها في فخّ التصادم مع المعارضة المتشبّثة بإسقاط الحكومة كخطوة أولى للحوار. هذا المناخ من انعدام الثقة , واستفحال ظاهرة التطرّف السياسي والرغبة في تصفية الحسابات القديمة من خلال إصرار كلّ طرف على الهروب إلى الأمام والتشبث بمواقفه , يوحي بان كلا الطرفين يستعد لخوض معركة الحسم فالتعايش بات مستحيلا.