بين البقاء في السجن أو الإقامة لوقت محدد في محلات التحقيق ،في قبو وزارة الداخلية او غيرها من فروع التحقيق الأمني ،لن تفكر طويلا في اختيار السجن كمقر إقامة لك ،فالفرق بينه و بين المكان الثاني كالفرق بين الجنة و الجحيم ،فبينما تفقد في مهاجع السجن و عنابره حريتك فانك في المقابل تواجه إمكانية فقدان حياتك أو بعضها أو شيئا منها في مكاتب التحقيق الباردة . و المقارنة ذاتها تصلح بين المحقق و السجان ،فالأول يتحرك في سقف عال يملك بموجبه أن ينهي حياتك في أية لحظة تمتنع فيها عن الاعتراف بما فعلت أو بما لم تفعل ،أما الثاني فسقف تحركه أقل بكثير،يكتفي بتحديد حريتك في المكان و في الحد الأدنى بشتمك في أحيان قليلة أو يشبعك ضربا بأوامر من رؤسائه في العمل . الأول ،أي المحقق ، أقسى بكثير ،أما الثاني فيكاد يتحول إلى سجين مثلك لو لا شيء من صدفة أو قدر أو هكذا لست أدري لماذا و كيف ؟؟؟ *** الجمعة ،14 سبتمبر2007 الطريق إلى ‘'المرناقية'' كان صعبا و عسيرا،سيارة السجن كان تحمل ثلاثة أضعاف طاقتها،حشرنا داخلها كالخراف،ملابسنا الرثة كانت ملتصقة بأجسادنا النحيلة من أثر العرق،أما الرائحة المنبعثة في المكان فكانت أقل ما يقال فيها إنها قذرة و لو لا لحسة من ذوق لتماديت في الوصف . في هذه الأثناء تحملك الذاكرة اللعينة إلى صور الجمال في زحام هذا القبح،تتذكر نفسك تزهو أيام الحرية متسكعا بين مقاهي الشارع الكبير،تنسى كأنك لم تكن،تعود إلى واقعك التعيس و تحاول استراق النظر من فتحة صغيرة في سيارة السجن المتهالكة ،من هذا الثقب الصغير ترى عالما كبيرا،الحسناوات يتبخترن في الشارع و قد وضعن احمر شفاه فاقع اللون،صوت المترو يهوي على السكة كجلمود صخر حطه السيل من عل ،ثم تفاجئك السيارة بالتوقف أمام باب كبير ،و تعلم علم اليقين انك ستبقى في هذا المكان الموحش زمنا لا تعلم منتهاه ،فالي المجهول يا فتى !!! تلج البوابة الأولى فالبوابة الثانية ،ثم إلى غرفة صغيرة حيث تنزع عنك كل ما ترتدي من ثياب لتخضع لعملية تفتيش دقيق ،تستعل فيها الأيدي البشرية و الأجهزة التكنولوجية ،تحس في تلك اللحظة بجنون عظمة عابر،و كأنك رجل مهم في هذا العالم حتى تفتش بهذه الطريقة "الهولودية" ،في أثناء ذلك لا يبخل سجانك المكلف بالتفتيش بإكرامك ببعض الشتائم الزقاقية التي تنطلق من شتم شخصك الفقير و تتواصل إلى إلحاق بقية أفراد العائلة الكريمة ،أما و أبا و سلالة و بلدا و قرية و أنت العاجز عن الرد و لو بالتعبير عن تبرمك من ذلك بتقاسيم وجهك الشاحب القادم لتوه من وجبات تعذيب جسدي و نفسي أكثر دسامة من تلك التي انت بصدد سماعها. تتحول بعد ذلك إلى مجرد رقم ،فالسجين داخل "المرناقية" يمنح رقما يسمى به من لحظة دخوله و حتى ليلة الإفراج العظيمة ،ضرب من عملية فقدان إنسانيتك و تحولك إلى مجرد كائن لست ادري ما يمكن أن يسمى،فالإنسان لا يمكن أن يحقق إنسانيته خارج الحرية ،هي المقدس الذي يمكن أن نقاتل من أجله حتى الرمق الأخير. تسير في درب طويل نحو المهجع يقودك سجان ينفث في وجهك دخان سيجاره رخيص الثمن،تلج المهجع،يستقبلك سيد المهجع و يسمى في معجم السجن " كبران شتمبري" و عادة يختاره مدير السجن من سجناء الحق العام كبار السن . ذو عقل راجح و خبرة بأحوال السجن و خباياه و من ذوي البنية الجسدية الضخمة كي يفرض ولاءه و سلطته على البقية ، طبعا البقية هنا تعني سجناء الحق العام ،أما نحن المعتقلون على خلفيات سياسية فلا سلطان علينا إلا من مدير السجن مباشرة و تبقى علاقتنا ب"كبران الشمبري" علاقة احترام متبادل ،و الأرجح في حالتنا ان يكون مخبرا لدى المدير فقد كانت تحركاتنا داخل المهجع و أحاديثنا تصل الداخلية أولا بأول. *** كان "كبران الشنمبري" في مهجعنا يدعى فوزي ،ضخم الجثة ،محكوما بعشرين سنة سجنا كان قد قضى منها سبع سنوات حينها، شديد الغباء أو هكذا كنت أراه،كان في بعض الأحيان يطلب مني المساعدة في أن اكتب له رسالة إلى زوجته التي تركته بعد دخوله السجن ،حينا كان يكتب إليها يستجديها كي تعود اليه و يشكو إليها غربته في السجن و يذكرها بأيام الشباب حين كان يأتي أمام بيت عائلتها يعاكسها و يسمعها معسول الكلام ، و كيف انه يوما قد هشم أسنان أحدهم كان يحاول خطبتها ،و أحيانا أخرى كان يكتب إليها يشتمها بأقذر النعوت طاعنا في شرفها واصفا إياها بالخيانة و كذا و كذا مما يضيق مجال الأدب و المقام بذكره ،كان خلطة عجيبة من مركبات النقص و العقد النفسية و الذكورية الشرقية البالية،كنت أشفق عليه في بعض الأحيان من نفسه . كان المهجع مستطيل الشكل،تصطف فيه الأسرة الموضوعة فوق بعضها البعض ،و توجد على طول حيطانه نوافذ عالية تطل على فسحة السجن -"لارية" – ،منها كنت استرق النظر إلى السماء و الأفق البعيد ، إلى سحب الخريف القاسية ،إلى سحاب الشتاء الأسود الموحش،إلى المطر ،كنت ابكي كلما هطل المطر،و كأني كنت أحاكي السماء،كلما بكت هي أكثر ،أبكي أنا ،لست أدري لماذا أبكي؟ ربما مازلت صغيرا،يقال ان الصغار سريعو البكاء… استلقيت سريعا على سريري و غرقت في نوم عميق ،نمت كثيرا يومها ،أكثر من عشر ساعات،كنت جائعا للنوم ،أحلام كثيرة زارتني يومها،أمي لم تفارقني ،جلست إليها و رويت لها ما حصل معي في الأيام السابقة،رويت لها أهوال التحقيق ،روت لي هي كم بكت من أجلي . كم سهرت طيلة ليالي تفكر في مصيري،سألتها من سيرد اللحاف حين ينزلق لما أنام ؟من سيرقع سروالي الذي ثقب من أثر اللهو في الشوارع ؟من سيعد لي "العجة" اللذيذة حين أعود جائعا إلى البيت و طعام الغداء لم يجهز بعد ؟ بكت أمي و بكيت ،أفقت في ذلك المساء الحزين ابكي شوقا و ذوقا . و انتهى الرابع عشر من سبتمبر أيلول 2007 ،الحزين على صوت البكاء و كفكفة الدموع .