تبدأ حقائق أون لاين نشر جزء من تاريخها والذي بدأ كمجلة سنة 1979 ناطقة باللغة الفرنسية في مرحلة اولى ثم وابتداء من سنة 1984 كمجلة مزدوجة اللسان (عربي فرنسي). و تحولت حقائق من مجلة الى جريدة بعد 14 جانفي 2011. بتاريخ 13 مارس 2013 تحولت حقائق الى موقع الكتروني تحت تسمية حقائق أون لاين. حقائق الجمعة 10 أوت 1984 بقلم : حسونة المصباحي ان اطلاق سراحكم يعتبر بحق خطوة جديدة قطعها هذا المجتمع باتجاه الحرية والتمدن الحقيقي والديمقراطي الفعلي. كما انه جسم تفهم رئيس الدولة ونظام الحكم بصفة عامة لضرورة ازالة التوترات والاحقاد والضغائن التي يمكنها ان تؤدي الى تخريب هذه البلاد وتدميرها تدميرا كاملا. وفوق ذلك كله فان هذا الحدث – اي اطلاق سراحكم – اظهر بوضوح كامل تكاتف كل القوي الوطنية والديمقراطية داخل النظام وخارجه من اجل مواجهة المظالم التي تسلط على هذه الفئة او تلك من المجموعات السياسية التي ضربت في الستينات والسبعينات وادخلت السجون القاسية بسبب مقترحات بسيطة لبناء مجتمع جديد او بسبب مطالبتها باحترام الحريات العامة التي ينص عليها دستور البلاد. ان المساجين السياسيين سابقا كانوا بحق وحيدين امام النظام . عائلاتهم فقط تعرف الامهم وعذابهم.. اما البقية الباقية فقد كانت غير مهتمة بما يجري حولها اذ كان المجتمع لا يزال منكمشا علي نفسه يهاب القمع ويخاف مواجهة اولئك الذين كانوا يعملون على تدمير طاقته الروحية والحضارية. اما انتم فقد توفرت لكم اسباب الدفاع عن انفسكم وهذا يدل على ان شعبنا بدأ يرتقي نحو مستوى افضل في التفكير والوعي السياسي والاجتماعي. واطلاق سراحكم هذا لابد ان يكون فرصة لكي نتحدث قليلا. ودون تشنج هذه المرة. هناك مسائل كثيرة لابد ان تساهموا في حلها بهدوء كامل حتى نتمكن من الخروج من النفق نهائيا. مسائل تهم مستقبل بلادنا وتهم الفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي وتهم الديمقراطية بصفة عامة . * من الضروري ان تطالبوا بالتواجد السياسي والفكري، فهذا حق من حقوقكم. لكن من الضروري ايضا ان لا يعني وجودكم رفض وجود الآخرين. فهذه البلاد لابد من ان تكون وطن الجميع حتى وان اختلفوا او تعارضت مصالحهم واهدافهم. ومسيرتها نحو التقدم تتوقف على ضرورة احترام المجموعات السياسية والاجتماعية والفكرية لبعضها البعض. في بلادنا وفي العالم المتخلف بصفة عامة هناك دائما مجموعات ترى انه لا يمكنها ان تتواجد الا اذا ما تم لها الغاء وجود المجموعات الاخري المخالفة لها او المختلفة عنها.وهو ما يمكن تسميته بالفكر الكلياني (totalitaire) الذي يقوم على نفي ورفض كل تفكير لا يتفق معه ولا يمكن ان يؤدي الا الى الاستبداد والارهاب. ومثل هذا الامر ان حدث فانه لا يمكن الا ان يجلب مآسي كثيرة ويسيل انهارا من الدماء والامثلة عديدة على ذلك. لبنان وايران وغيرهما من بلدان العام المتخلف ! واذا ما كان عملكم السياسي ايها الاخوة يهدف فعلا الى «جلب مصلحة او دفع مفسدة» كما تقولون في كتاباتكم فلا يجب ان يكون تعاونكم مع القوى السياسية الاخرى متوقفا عند حد الاستفادة منها وانما لابد ان ينطلق من فهم شمولي للمجتمع وللمستقبل.اذ ان القوى السياسية الاخرى هي ايضا تسعى الى الاصلاح الحقيقي والى بلورة رؤية جديدة للمجتمع تعتمد مجمل قيمنا الحضارية والثقافية. فالديمقراطية التي نطالب بها جميعا لا يجب ان تتحول الى وسيلة في يد البعض للسيطرة على الآخرين. وانما لابد ان تكون اداة فعالة لرقي المجتمع ولمساعدته علي مواجهة اعدائه الداخليين والخارجيين وانعكاسا لنضج الشعب السياسي والثقافي والمدني. * هناك مسألة اخرى خطيرة. واعني بذلك الجامعة. فمنذ اكثر من عشر سنوات وهذه المؤسسة الوطنية العظيمة مشلولة او تكاد بسبب الصراعات والخلافات السياسية والايديولوجية التي تعتمل في داخلها. وقد بلغ الامر خلال العشر سنوات الماضية الى حد التعفن الحقيقي والى حد التقاتل بالسيوف والهراوات. واذا ما اردنا فعلا ان تتحقق الديمقراطية الفعلية في بلادنا فلا بد من حماية المؤسسات الجامعية وغيرها من مثل هذا الممارسات الخطيرة. ولا بد ان نسعى جميعا الى تحويل جامعتنا الى مركز اشعاع ثقافي وفكري وان امكن سياسي. وبدل ان يتقاتل طلبتنا ويتباغضوا بسبب الخميني او انور خوجة يمكنهم ان يتحاوروا حول مسألة اقتصادية او ثقافية او فكرية ويربطوا تفكيرهم واطروحاتهم بالشارع وليس بالاوهام والاذاعات والمناشير الزائفة. وبما انكم ساهمتم ايها الاخوة مع قوى اخرى في وجود هذه الحالة السيئة داخل الجامعة فانه لابد وانتم الآن خارج السجون ان تعملوا من اجل اصلاح ما فسد وان تساهموا في حوار وطني شامل يعد ارضية لاقامة اتحاد طلابي يجمع كل الاتجاهات الفكرية والسياسية. وقيامكم يمثل هذا العمل سيكون بحق دليلا قاطعا على وطنيتكم وعلى ايمانكم بالديمقراطية. * اصبحت قضية العنف السياسي من القضايا الخطيرة التي يواجهها العالم المتمدن والعالم المتخلف على حد السواء. واذا ما كان العنف السياسي في البلدان الرأسمالية المتقدمة (المجموعات الفوضوية في فرنسا، الألوية الحمراء في ايطاليا، مجموعة بادر ما ينهوف في المانيا) انعكاسا للازمة الحادة السياسية والاقتصادية والفكرية التي تعانيها هذه البلدان وايضا لمآسي الشباب وتشاؤمه فانه في المجتمعات المتخلفة يستند الي العشائرية والتفكير الكلياني والانتقام وغير ذلك. وفي مجتمعنا طغى العنف على حياتنا بشكل مخيف منذ عشر سنوات تقريبا وتحول الى ظاهرة مرعبة تهدد الحاكم والمحكوم علي حد السواء. وقد اظهرت احداث الخبز ان مجتمعنا يختزن طاقة عنف يمكنها ان تدمر هذه البلاد تدميرا حقيقيا. وانا لن احاول هنا ابراز الاسباب الدافعة لمظاهر الغنف هذه وانما اريد ان اقول ان المجموعات السياسية المتواجدة على الساحة الان لابد ان تلعب دورا في التخفيف من حدة هذا العنف وان تعمل على خلق منابر للحوار والنقاش وتقاوم كل ما يمكن ان يؤدي الى العنف بطريقة او باخرى. وقد ارتبط العنف بتفكير الاسلاميين منذ زمن بعيد اي منذ ظهورهم في مصر في عهد الملك فاروق. وقد مارسوه في تلك الفترة (اغتيال النقراشي) ثم في عهده جمال عبد الناصر (محاولة اغتيال عبد الناصر في الاسكندرية) واخيرا في عهد السادات (حادثة المنصة). اما هنا في تونس فنقدر ان نقول ان الاسلاميين مارسوا العنف داخل الجامعة تماما مثل المجموعات اليسارية المتطرفة الاخرى ولكنهم في الشارع مارسوه بشكل محدود. ونرجو ان يبتعد شبح العنف تماما حتى لا يلقى ببلادنا في هاوية الحرب الاهلية وتصفية الحسابات وغير ذلك. * كل انتلجنتسيا وطنية حقيقية يرتبط تفكيرها دائما بمصالح شعبها. وما نلاحظه في بلادنا هو ان هناك كثيرا من المجموعات التي تفكر خارج الشعب. او تحاول ان تفرض عليه اطروحاتها وافكارها وتصوراتها. فالمراكسيون التونسيون مثلا اضاعوا جهدهم واوقاتهم في الصراع حول الخلاف الصيني – السوفياتي - في وقت كانت فيه الطبقة العامة التونسية تخوض نضالا مريرا من اجل تحسين اوضاعها المعيشية واستقلالية المنظمة الشغيلة. وخلال السنوات الماضية اثار الاخوة الاسلاميون عددا من المسائل التي لا علاقة لها بواقعنا تماما مثلا :قضية العروبة والاسلام - قضية الخير والشر - قضية الالحاد والايمان. لا اعتقد ان هناك في بلادنا صراعا بين هذا الشق و ذاك ، وذلك بسبب هذه القضايا ولا بد قبل ان نطرح هذه المسائل ان نتأكد من تواجدها على ارض واقعنا. ولا بد ان نتأكد من اننا اذا ما طرحناها ستساعد على فتح افاق جديدة على المستوى الفكري والسياسي. ان مجتمعنا في حاجة الى طرقات ومستشفيات وجامعات ومؤسسات اقتصادية فعالة واصلاح زراعي وهو في حاجة الى خطوط كهربائية وتلفونية جديدة والى وسائل حديثة للنقل والى احترام حرية الافراد والمجموعات والى ثورة بيداغوجية واخلاقية تقتل تلك العادات السيئة التي زرعتها في مجتمعنا فئات طفيلية. * القضية الاخيرة التي اريد لفت نظر الاخوة الاسلاميين اليها هي قضية الاسلام. انا اقول – وليسمح لي الاخوة بذلك - ان الاسلام ليس ملكا لاحد او لمجموعة وانما هو تراث هذه البلاد وجوهرها الحضاري والروحي والاخلاقي. وحتى الماركسيين الذين ينطلقون من التحليل المادي للتاريخ وللاقتصاد لا يمكنهم البتة الاستغناء عن الاسلام او رفضه جملة وتفصيلا. ولقد ساعد الاسلام الوطنيين العرب على محاربة الاستعمار والمسخ الحضاري والثقافي الذي تعرضوا اليه في النصف الاول من هذا القرن وهو الان يمكن ان يساعد على استعادة الهوية المفقودة وعلى ارساء قواعد اخلاقية ثابتة ومتطورة. غير اني اخال البعض يرفعون الاسلام مثلما يرفعون هراوة يهددون به هذا وذلك معتبرين انفسهم المسؤولين الوحيدين عنه. ومثل هذه النظرة الفقيرة للاسلام لا يمكنها البتة ان تساعد على بناء مجتمع جديد ولا ان تساهم في بلورة رؤية متقدمة على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي. انها نظرة الانطوائيين والاقليات الصغيرة التي تخاف على نفسها فتظل تنكمش وتنكمش(و لا يعني لها شيئا )تكاثر عدد المدارس الفلسفية و الفكرية والسياسية : الغزالي وابن رشد وابن خلدون والجاحظ والمتنبي وعمر الخيام والحلاج وابن سينا وابو نواس. وعندما بدأ عصر السقوط والانهيار تكاثرت الملل والنحل وانتشر في الارض فقهاء متزمتون حولوا الاسلام الى مجموعة من القواعد القاسية والجافة. وفي بداية عصر النهضة العربية الاسلامية (المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين) وقعت محاولة تجديد الاسلام وجعله في مستوي العصر الحديث واداة من ادوات التحدي والنضال الوطني والاجتماعي. وقد نجح المصلحون في ذلك الى حد ما. واليوم ها نحن من جديد نجد انفسنا في مواجهة قضية الاسلام. واعتقد انه من الضروري ان يكون الاسلام اليوم اداة للانفتاح الحضاري والثقافي، ووسيلة لبناء المستقبل وتوحيد القوى الوطنية والمجموعات السياسية والفكرية وبناء مجتمع تحترم فيه المبادئ المدنية من حريات عامة وغير ذلك. واذا ما تم ذلك فاننا نكون قد تخطينا المشاكل الزائفة التي يطرحها البعض ولا يهدفون من خلالها الا الى تمزيق الصفوف وتعتيم الرؤية المستقبلية وتحويل الاسلامي الى شيء مخيف ومتخلف.