من نافذة تطل على كبري قصر النيل ، أقرب الجسور المؤدية الى ميدان التحرير، تبدو القاهرة ليلا كعادتها ساحرة. اصوات الحفلات الراقصة والعلب والنوادي الليلية المنتشرة على ضفتي النيل لا تتوقف حتى الساعات الاولى من الفجر. يأتيها من حين الى اخر صوت الاذان كعادته من بعيد ولكنه يظل خافتا تائها في جلبة السيارات وضجيج الباعة وسواق الحناطير وهمسات العشاق المنتشرين على ضفاف النهر. هذه القاهرة التي زرتها قبل سبع سنوات، قبيل الثورتين، تواصل حياتها كأن شيئا لم يكن . ثورة جاءت بالاخوان الى السلطة واخرى طردتهم منها. وتلك الايام نداولها بين الناس! بين الثورتين وبعدها يواصل غالبية المصريين حياتهم التي الفوها بحثا عن اللذة وعن لقمة العيش. الثورة اصبحت كلمة سيئة السمعة لدى البعض منهم. ليس لانها لم تغير شيئا من حياتهم بل لانها زادتها صعوبة وبؤسا. محمود، العامل باحدى شركات السياحة، الذي اوصلنا من المطار الى النزل، ينتظر افواج السائحين الذين لم يأتوا بعد. سائق التاكسي الذي أوصلنا الى وسط البلد من النزل، اصبح مستعدا لكل شيء من أجل زيادة بضعة جنيهات الى دخله اليومي. بائعة الاعلام المصرية ثلاثية الالوان في ميدان التحرير تقول ان تجارتها كسدت. لم يعد لقطعة القماش هذه وهجها وتجارتها الرابحة التي سبقت صعود وسقوط الرئيس الاخواني محمد مرسي الذي ينتظر ربما حكما بالاعدام كغيره من قيادات الجماعة. ما حدث في مصر طوال الثلاث سنوات الاخيرة يقول أحد سواق التاكسي شيئا يفوق كل سيناريهوات الافلام الممكنة في بلد احدى ميزاته صناعة السينما. ربما من المهم اعادة مشاهد مرت امامنا طوال الثلاث سنوات الاخيرة لفك لغز الحاضر. المشهد الشهير لخراطيم المياه الساخنة التي رشت على المتظاهرين فوق كبري 6 أكتوبر في يوم من ايام يناير الاولى مازال عالقا في الاذهان. معركة الجمل في التحرير واللحى والجلابيب البيضاء التي سطت على المنصات وعلى الثورة وارادتها اسلامية. التحرش وسحل الفتيات في الشوارع. شهداء الاتحادية. كرداسة وسحل وقتل الشيعي حسن شحاتة. فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة وسقوط العشرات من الاخوان. بالونات الفرحة وطائرات الهيليكوبتر التي ترفع الاعلام المصرية فوق -جوان ميدان التحرير في يوم من ايام يونيو. ثم في اليوم السابع خلق الشعب عبد الفتاح السيسي. كنت في مقال سابق كتبت انه لو لم يكن السيسي موجودا لصنعه المصريون. و لازلت على قناعتي. الفتاة الصحفية الجميلة، التي خلعت حجابها ثورة على تقاليد الاخوان ، سألتني "احنا رايحين فين؟!" هي لا ترى في السيسي منقذا وتتطلع الى اعادة كتابة سيناريو اخر لما لحق 30 يونيو-جوان. تريد من الشعب ومن التاريخ أن يعيدا كتابة السيناريو من جديد. وعندما تقتنع انه لم يعد من الممكن اعادة كتابة التاريخ تجيب باصرار" الثورة مستمرة" والشعب سيراجع ما كتب! هي تبحث عن شيء ما. عن حلم اخر لمصر اخرى غير واضحة المعالم. لا أظنها راغبة في اعادة الاخوان الى السلطة ولا اعادة ارتداء الحجاب لتغطية شعرها الجميل. طبعا ليس هناك ربط مباشر بين اعادة الاخوان واعادة ارتداء الحجاب زمن حكم الاخوان غير ان صحفية فرنسية اخرى كتبت تحقيقا مهما عن هذه الظاهرة. سقوط الاخوان وبداية موجة التحرر في شوارع مصر. الظاهرة محتشمة ولكنها تنبئ بتغيير ثقافي يسير اليه البلد. هنا مربط الفرس. في بلد مازال يسيطر عليه الهذيان الديني ، يقول معتز صاحب احدى مكتبات وسط البلد، سوف يعود الاخوان الى السلطة في اقرب انتخابات يسمح فيها لهم بالمشاركة. هم يستثمرون مخزونهم الديني اليوم واسطورة الضحية التي ازدادت قوة في المخيال الشعبي بعد الزج بهم في المعتقلات وحكم على قيادتهم بموجة الاعدامات. لهذا السبب نحن نحتاج عبد الفتاح السيسي يقول الكتبي، "نريد منه ان يمضي بعيدا في استئصال هذا الكيان السرطاني من جذوره ليس فقط بالاجراءات الامنية ولكن عن طريق احداث ثورة ثقافية تطرد الهذيان الديني من المجال العام". بلا شك الاف من المصريين لا يرون ما يراه صاحب المكتبة. هم يعتقدون ان الاخوان جزء من الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية ولا يمكن استئصالهم بجرة قلم قاض او حاكم في قصر القبة. ولكن السؤال الذي يراود هؤلاء ايضا: أي مكانة للاخوان في مستقبل الايام؟! هل يرضى الاخوان ان يكونوا مكونا من مكونات المجتمع المصري ولا يتغولوا للهيمنة على المجتمع كله؟! بلا شك الجدل الذي تعيشه مصر هذه الايام حول مصير الاخوان والسيسي والنمط المجتمعي هو احد اهم نتائج ما سمي بثورات الربيع العربي. في مصر كما في تونس وسوريا واليمن وغيرها اصبح طرح الاسئلة المحظورة ممكنا. اي نمط مجتمعي نريد؟. ما هي ضريبة اللحاق بركب التاريخ والحداثة؟!. سؤال "احنا رايحين فين؟!" يعبر عن رغبة في مصر للاجابة عن اسئلة في ظاهرها سياسية ولكنها تعبر عن الرغبة في تغيير نمط المجتمع الذي ساد لمدة عقود. احداث تحول حقيقي في حياة المصريين يخرج غالبيتهم من الفقر ويمنح لهم فرصا اكبر في حياة كريمة حرة بلا قيود هو جوهر الاجابة عن سؤال احنا ريحين فين. من على شرفة تطل على كبري قصر النيل ليلا يبدو المشهد ساحرا قبل ان يأتي الصباح وزحمة السيارات وساعات الذروة لتحبس الانفاس. القاهرة تختنق نهارا لتتنفس الصعداء في الليل. هي مدينة تعيش حالة ولادة ومخاض لا ندري مآلاتها. ايكون مولودا يافعا جديدا غير الذي ساد طوال قرون ؟ام هجينا يذكرنا بالامس القريب وبثقافة الامس البعيد. في الاثناء يواصل الباعة هرسلتهم اللطيفة للزبائن في الشوارع ويواصل العشاق همسات الحب على ضفاف النيل وكأن شيئا لم يكن!.