حين يراهن المتسابقون إلى كرسي الحكم على حصان عجوز فعليهم أن ينتظروا كبواته وحرونه وسوء تصرّفه. وقديما قيل يغلب الطبع التطبّع. حصاننا العجوز تمرّس بالسياسة في مدرستها الديكتاتورية المشخصنة، في بلاط الزعيم الأوحد رئيس الحزب الأوحد صاحب الرأي الأوحد "المتوحّد" Autiste. كان على جميع الخيول الجامحة أن تشكم نفسها في انتظار الفرصة المناسبة، التي تأخّرت بالنسبة للباجي قائد السبسي وانتظرت طويلا، حتّى ولّت ديكتاتورية بورقيبة وولّت بعدها ديكتاتورية بن علي. في خضمّ تقلّبات السياسة، أتقن الباجي التقلّب معها وركوب صهوات أمواجها، كمحترف سياسة حقيقي. ساند سياسة التعاضد حين كانت موجة التعاضد هي الطاغية بفرمان بورقيبيّ، وانقلب عليها حين بدأ نجمها في الأفول. وكذلك الحال مع أحداث جانفي 78 التي كادت تعصف بعرش الرجل العجوز خلال مواجهته مع اتحاد الشغل، خرج عن طاعة السلطان برهة لحين هدوء الجو ثمّ عاد إلى حظيرته ما إن استقرّت الأمور. وكسبّاح محترف وسمكة تعرف جيّدا مياه الحكم، تنقّل الباجي بين مختلف درجات الملوحة من الداخلية التي أمسكها في فترة التصفيات الجسديّة لليوسفيين إلى الدفاع مرورا بالخارجيّة، وصولا إلى قبّة باردو التي دخلها دخول المؤلّفة قلوبهم رئيسا لبرلمان بن علي المنقلب على "الزعيم". طوال سنوات خلت، احتفظ الباجي قايد السبسي - كسمكة محنّكة تدرك أن التيّار لا يناسب السباحة – بخاصّية الكمون والسبات الشتوي الذي طال به إلى ما بعيد سقوط رأس النظام وتصدّع أركانه. أخرج الباجي من الثلاجة القطبيّة وأعيدت له الحياة ليقدّم للتونسيّين كضامن لاستمرار الدولة، وشخصيّة وطنيّة من جيل الآباء المؤسّسين قادر على إنقاذ السفينة بما عليها ومن عليها. لن نتوقّف طويلا عند مرحلة حكمه ولا ظروف نشأة حزبه. فالأهمّ هو الملاحظة أن هذا الحزب بني حول شخصيّة الرجل القويّ، مستعير الهيئة البورقيبيّة حتّى على مستوى النظّارات والحركات وأسلوب الخطاب. لقد نجح الباجي قايد السبسي في تحويل الإرث البورقيبي إلى أصل تجاري احتكره وانتصب فيه فوضويّا وزيّن جدرانه وواجهته بصورته التي جعل الخداع الضوئي منها مشابهة للأصل البورقيبي. وكما سبق ل"الزعيم" أن حوّل الحزب إلى أوليغارشيا عائليّة من خلال هيمنة زوجته وابنة أخته على دواليب القرار السياسي، فإن الباجي لم يشذّ عن القاعدة وهو يفرض ابنه الخالي الوفاض من التجربة السياسية أو الفكرية على الحزب. فرضه على رأس أهم قائمة انتخابيّة كما هو معلن، لكنّه سلّطه كذلك على مسار تشكيل القوائم الانتخابيّة، ليطغى منطق الولاء والبراء في النداء، وليستعيد الحزب شكله الأصلي الذي أراده له بانيه منذ البداية. كثيرون من المثقّفين التونسيّين ، ومن السياسيين اليساريين والديمقراطيّين، تعلّقوا بقشّة السبسي في مواجهة طوفان الإسلاميّين طامعين في النجاة من الغرق، محاولين بناء قطب لكسر الاستقطاب الأحادي للنهضة. كثيرون آمنوا أن المعركة اليوم تدور حول آخر مربّعات الدولة المدنيّة التي تضرب جذورها في التاريخ الحديث لتونس وتعود أصولها لما قبل الاستقلال، معتقدين عن وجاهة أن هذه الأصول والأسس مهدّدة بالتقويض. هؤلاء الذين التفّوا حول الباجي ، التفاف الفراخ المذعورة حول الدجاجة، لم يظنّوا لحظة أن طبعه السياسي الذي نحت على يدي مايكل آنجلو الديكتاتوريات سيبرز للعيان عند أوّل عمليّة نفض غبار وأوّل مفترق طرق. فوجئ هؤلاء وغيرهم من المراهنين على شيخ النداء أنه استعاد عاداته القديمة، ليس فقط بتسليط ابنه على الحزب، وإنما باستعادة اللاعبين القدامى الذين ركنتهم الثورة على الرفّ. فجأة طفحت كبثور جلديّة على رأس القوائم أسماء لرؤساء شعب تجمّعيّة ولجان تنسيق ورجال مال وأعمال اشتروا بطاقات الدخول إلى مسرح السلطة بالعطاء الجزيل. في حين ركن على الرفّ كلّ صاحب فكر أو مشروع سياسي. فلا يجب أن يبقى سوى الطيّعين المتماهين مع تصوّر الباجي للعمل السياسي. من وجهة نظر الرجل ومن جاوره، فإن التفكير البراغماتي يبيح له مثل هذا السلوك. لماذا نغيّر اللاعبين ماداموا قد أثبتوا طيلة عقود ولاءهم لصاحب القرار؟ هم يعرفون خبايا الناس وأسرارهم وآليّات وقوانين اللعبة السياسية التي طالما حكمت تونس. من وجهة نظر مخالفيه، فإنّ هؤلاء تحديدا المسؤولون عمّا آلت إليه الأوضاع. هم السبب في تراكم أسباب القهر والاحتجاج. هم أنفسهم من ساهم بشكل رئيسي في تركيز الديكتاتورية ومن أدّوا إلى الثورة عليها وعليهم. لقد ساهم هؤلاء وغيرهم في بناء حزب الباجي، حول الباجي، وبهيكليّة قوامها قايد السبسي الأب فالابن. ليس من عجب إذا أن تطغى على خطاب الباجي في كلّ لقاء صحفي نبرة تمجيد الذات وتأليه الأنا، وليس من عجب أن يدور كلّ الحديث إلاّ بعضه عن حكمة الباجي ورؤيته الثاقبة وحنكته السياسيّة، وأن يكون الآخرون "غبارا من أفراد" كما قال في اجتماع عام ذات يوم. يوم قرّر الباجي قايد السبسي فضّ الاشتباك ووقف إطلاق النار مع حركة النهضة فعل ذلك بمنطق زعيم يلتقي زعيما وشيخ يلتقي شيخا، دون أن يستشير في ذلك حلفاءه في الاتحاد من أجل تونس، ولا أن يراعي حالة المدّ القويّة التي عرفها في تلك الفترة اعتصام الرحيل. هل كان بمقدور أحد من داخل النداء أن يقول للباجي لقد تصرّفت بشكل منفرد؟ وهل كان بمقدور أحد من داخل النداء أن يحاسب زعيمه على قوله في الردّ على سؤال صحفي: "أنا ما نشاور حدّ؟". تلك العبارة المقتضبة تختزل شخصيّة الرجل التي صبغت شخصيّة حزبه الذي تحوّل إلى ما يشبه محرّك إطلاق الصواريخ. هل تعرفون أن الصاروخ ينفصل عنه محرّكه ويسقط بعيد إقلاعه بعد أن يعطيه الدفع اللازم، حتّى لا يثقله؟ قدر نداء تونس أن يكون مجرّد محرقة للكيروزين.